كتب

هل يمكن الجمع بين التفكير الاستراتيجي والاجتهاد المقاصدي؟ كتاب يجيب

كتاب يبحث في تجديد أساليب التّفكير الإسلامي وتنزيله على واقعنا المعاصر.. (عربي21)
الكتاب: "التفكير الاستراتيجي المقاصدي: محاولة للجمع بين التّفكير الاستراتيجي والاجتهاد المقاصدي للمساهمة في تطوير أساليب التّفكير المعاصر"
المؤلّف: الدكتور مصطفى العرفاوي
النّاشر: دار سوتيبا- تونس
الطّبعة الأولى: 2023
عدد الصفحات: 81


على اختلاف المدارس الإسلاميّة وتيّاراتها الفكريّة التي تفرّقت مناحي شتّى على المستويين العقدي والتشريعي، فإنّ جميعها يلتقي عند "دِلتا" الإقرار بمكانة العقل في الإسلام، مناطا للتكليف والتكريم، فلولاه ما حُمِّل الإنسان الأمانة ولا أمر الله الملائكة أن تسجد له احتراما وتحية وترحابا.

ولأنّ مدار الفكر الإسلامي، الفلسفة الإسلاميّة على وجه الخصوص، كان عقلنة التجربة الدّينية في السياقين العربي والإسلامي،  من خلال بحثها الدّائم عن التوفيق بين العقل والنقل وفهم النصوص التّأسيسية اعتمادا على خطاب تأويلي، في مرحلة أولى ثمّ الاجتهاد في تنزيله بحسب الواقع المعاش، تماما كدأب الخلفاء والتابعين، فإنّ الإيمان بشموليّة الشريعة الإسلامية وأحكامها لموضوعات الحكم والسياسة والاقتصاد والإدارة والمجتمع والأخلاق والأسرة وبنائها، لا ينفصل عن البحث المتجدد في سياقات التنزيل الملائمة وأدواتها، بما يتماشى وعلل مجتمعاتنا المعاصرة وتطلّعاتها.

في هذا الإطار يتنزّل كتاب "التفكير الاستراتيجي المقاصدي: محاولة للجمع بين التّفكير الاستراتيجي والاجتهاد المقاصدي للمساهمة في تطوير أساليب التّفكير المعاصر"، لمؤلّفه الدكتور مصطفى العرفاوي والصّادر حديثا عن دار سوتيبا ـ تونس، والذي يبحث في تجديد أساليب التّفكير الإسلامي وتنزيله على واقعنا المعاصر. وقدّم هذا الكتاب الدكتور محمّد التومي، الأستاذ الباحث بمركز البحوث والدّراسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة بتونس (السيراس) والعضو المحرر للمعجم التاريخي للغة العربيّة باتّحاد المجامع العربيّة.    

إشكاليّة الكتاب

يعالج الكتاب الإشكاليّة الرّئيسيّة التّالية: هل يمكن أن ننطلق من الفكر والممارسة المقاصديين لتأسيس أسلوب تفكير استراتيجي جديد مدعوم بأدوات ومخرجات الاجتهاد المقاصدي الإسلامي؟ وقد استعان المؤلّف في ذلك بأمرين مهمين: الأمر الأوّل يتمثّل في اطّلاعه على التّفكير الاستراتيجي وأساليب أخرى في التّفكير وتكوينه في التّخطيط الاستراتيجي الشّامل لمدّة ثلاثة أشهر عند أحد أساتذته السودانيين وهو الأستاذ الدّكتور حسين أبو صالح صاحب كرسي التّخطيط الاستراتيجي في جامعات السّودان والإمارات العربية وغيرها من الدّول العربية. أمّا الأمر الثاني فهو مطالعاته لما توفر في المدوّنة المقاصديّة المعاصرة".

هيكلة الكتاب

قسّم الدّكتور العرفاوي كتاب "التفكير الاستراتيجي المقاصدي" إلى أربعة فصول، هي على التّوالي: إطار مفاهيمي لمصطلحات العنوان، نماذج من التفكير المقاصدي ومراحل التخطيط الاستراتيجي، القواسم المشتركة والخصوصيّات الفارقة بين التفكير الاستراتيجي والتفكير المقاصدي والفصل الأخير بسط فيه المؤلّف نظريّة التفكير الاستراتيجي المقاصدي المقترحة.

أهميّة التفكير الاستراتيجي

يرى الدّكتور مصطفى العرفاوي، مؤلّف كتاب "التفكير الاستراتيجي المقاصدي: محاولة للجمع بين التّفكير الاستراتيجي والاجتهاد المقاصدي للمساهمة في تطوير أساليب التّفكير المعاصر"، أنّ ابتكار أسلوب جديد في التّفكير يعتمد التّفكير الاستراتيجي والاجتهاد المقاصدي، دافعُ رئيس في اتجاه الفكر الإسلامي الأصيل والمتماشي مع حركة العصر وعلومه.

في ذات السياق، يؤمن العرفاوي بأنّ تأصيل التفكير الاستراتيجي سيساهم في إعادة بناء العقل المسلم أو تأهيله لاسترجاع الدور الحضاري الذي لعبه في وقت ما، كما أنّ اعتماد التفكير الاستراتيجي والاجتهاد المقاصدي "يساهم في أَنسنَةِ التّفكير والتّخطيط الاستراتيجيين المعاصرين اللّذين تغيب عنهما هذه الصفة، مما تسبب في عدة كوارث اقتصادية واجتماعية كانت ضحيتها الشعوب الضعيفة التي لا تملك من القوة الاستراتيجية الشاملة شيئا.

هذه الأنسنة عبّر عنها الجويني وتلميذه الغزالي وأغلب علماء الإسلام بـ "الرّحمة" التي ترتبط أساسا بمقاصد الشّريعة: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ".

من جهة أخرى، تكمن إضافة الدّراسة التّأصيليّة للفكر الاستراتيجي في كونها وسّعت من وظيفة الفكر المقاصدي، إذ ستخرجه من بوتقة الفقه إلى مناشط الإنسان مع بقائه في مجال الفقه والتشريع الذي هو مجاله الأصلي، يؤكّد الدكتور العرفاوي.

المفهوم الاصطلاحي للتفكير

يقرّ الدّكتور العرفاوي بغياب تعريف توافقي لـ‘’التّفكير’’ نظرا لاختلاف زوايا النظر العلمية التي يعتمدها العلماء حسب اختصاصاتهم. وهذا ما يفسّر اختلاف علماء النفس وعلماء الاجتماع والفلاسفة في الموضوع.

ونظرا لشموليّة تناول التّفكير لكلّ أنشطة الإنسان فإنّه سيكون من الصّعب إيجاد تعريف موحَّد له تتمثّل فيه طبيعته ومهامّه ووسائله ونتائجه والمظاهر التي يتجلّى فيها. يقول الدكتور سهيل رزق دياب: "إنّ القارئ أو الباحث في مجـال التربيـة عامة وعلم النفس خاصـة يجـد الكثيـر مـن التعريفات المختلفة للتفكير، منها المتشابه إلى حد كبير، ومنها المتشابه في بعض الجوانب، معنـى ذلك أنّه ليس هناك تعريف محدد للتفكير".

ويشير الدكتور العرفاوي إلى أشهر هذه التّعريفات وأشملها وهو تعريف سيكولوجي للأستاذ الدكتور راجح يقول فيه: "التّفكير هو كلّ نشاط عقلي أدواته الرموز، أي يستعيض عن الأشياء والأشخاص والمواقف والأحداث برموزها بدلا من معالجتها معالجة فعلية واقعية’’. ويواصل في نفس النّسق: "يُقصد بالرمز كلّ ما ينوب عن الشّيء أو يشير إليه أو يعبّر عنه أو يحلّ محلّه في غيابه. والرموز التي يستخدمها التّفكير أدوات له مختلفة شتّى، منها: الصّوّر الذهنية، والمعاني والألفاظ والأرقام، ومنها الذكريات والإشارات والتعبيرات والإيماءات، وكذلك الخرائط الجغرافية والصّيّغ الرّياضية".

كما عرَّفه طه جابر العلواني بأنَّه: "اسم لعمليَّة تردّد القُوى العاقلة المفكّرة في الإنسان، سواء أكان قلبًا أو روحًا أو ذهنًا، بالنَّظر والتدبُّر لطلب المعاني المجْهولة من الأمور المعلومة، أو الوصول إلى الأحْكام، أو النِّسَب بين الأشياء". وهو تعريف يجعل نشاط العقل(التّفكير) محتويا للعواطف والأحاسيس والعمل العصبي الخاصّ بالمخّ. وبذلك يكون أشمل من نشاط المخّ، ملامسا لنشاط القلب(العواطف) والرّوح. وإن كان معنى "قوى الرّوح" هلامي وغير علمي، دون أن يعني ذلك نفيه بل عدم استطاعة العلم تناوله بأدواته المعروفة. فهو مفهوم ديني يُدْرَكُ بأدوات المعرفة الدّينية التي لا تطالها المعرفة العلمية التجريبية. فعلم النفس، إذن، يعتبر أنّ التفكير عملية عقلية تتمثل في الاستجابة الرمزية للمنبهات الداخلية والخارجية، وهو حلقة الوصل بين النشاط الداخلي والمحفز الخارجي للمخ.

ويخلص الدكتور العرفاوي إلى أنّه يمكن اعتماد التعريف أو التّوصيف التّالي لعملية التّفكير بأنّه: "عملية استعمال العقل لخلايا المخ لإنتاج الأفكار بصفة عامّة’’. وهو تعريف بسيط وواضح. كما يشير في الآن نفسه إلى أنّ التّفكير لا يتوقّف لأنّ تحديّات الحياة أمام الإنسان لا تتوقّف أيضا. وبالتّالي سيتواصل التّفكير لرفع هذه التحديات المطروحة باستمرار. وبذلك يكون التّفكير أهمّ وسيلة لتقدّم الإنسان وارتقائه الحضاري الشّامل، لأنّ أساس هذا التقدّم هو رفع التحديات والبحث عن الحلول. وقد نبّه أرنولد توينبي إلى أنّ الأمم والدول تسقط بمجرد عجزها عن رفع التحديات (نظرية التحدّي والاستجابة).

التفكير الاستراتيجي المقاصدي

يؤكّد الدكتور العرفاوي الارتباط الوثيق بين الحديث عن مصطلح "مقاصد" ومصطلح "الشّريعة". كما أنّ تعريف مصطلح "مقاصد" يحيل مباشرة على تعريف "مقاصد الشّريعة". ولذلك يرى من الأهمّية بمكان تعريف هذا الثّنائي "مقاصد الشّريعة"، ليستقيم لنا فهم مصطلح "مقاصد". في هذا الإطار، يعرّف "مقاصد الشّريعة" على أنّها: "أهداف عليا أو غايات سامية وضعها الشّارع لتطبقها الشّريعة الإسلامية، من أجل مصلحة الإنسان بصفة عامة. وليس مطلوبا تحقيق هذه الغايات كاملة بل ما هو مقدور عليه منها عبر وجود الإنسان على الأرض. وتعتبر هذه الغايات دليلا لاستنباط الأحكام غير المعلومة من الدين بالضرورة ولبناء الخطط للمنظمات التي تتبني هذه المقاصد.

تعريف مقاصد الشّريعة المذكور أعلاه يقرّب من الغايات في التّفكير الاستراتيجي وهي إحدى مرجعيات الخطّة الاستراتيجيا التي تضعها القيادة العليا للمنظّمة. ويظهر هذا التّقريب بوضوح في عدم ضرورة تنفيذ المقاصد والأهداف العليا للمنظّمة كاملة، وأيضا في وصف المقاصد والغايات العليا للمنظّمة بالدّليل الذي يوجه الخطّة الاستراتيجية في التّفكير الاستراتيجي واستنباط الأحكام في الفقه المقاصدي، يضيف الدكتور العرفاوي.

كانت الغاية من التّعريفات السّابقة الوصول إلى إبداع تعريف للتفكير المقاصدي الذي هو أساس هذا البحث في جمعه بالتّفكير الاستراتيجي. والّلفظ مستحدث ومستنتج من "الفقه المقاصدي". والتّفكير المقاصدي أسلوب إسلامي في التّفكير بصفة عامّة وبقطع النّظر عن مجال تطبيقه. والبحث يريد أن يمزج بين التّفكير الاستراتيجي والتّفكير المقاصدي لإبداع طريقة جديدة في التّفكير العام غير مرتبطة بمجال الشّريعة ولكنّه آخذ بصفات مقاصد الشّريعة الإسلامية.

مجالات التفكير المقاصدي

ظهرت ممارسة التّفكير المقاصدي عند المسلمين في مراعاتهم لغايات الشّريعة أي مقاصدها. وهذه المراعاة هي في الأساس تفكير وتأمّل لاستنباط الأحكام تماشيا مع الظّرف والحال المتحرّكين على الدّوام. وتواصلت هذه الممارسة للتّأمل والتّفكير البعيد المدى (الاستراتيجي) على طول التاريخ الإسلامي وعرفه الصحابة وأئمة المذاهب والفقهاء والمفكرون المعاصرون. والمقاصد نفسها وضعها المشرّع لتبقى وتكون مصدرا للأحكام. وبقاؤها غير متناه في الزمان.

ومصطلح "استراتيجي" ذاته ليس فيه ما يوحى بالبعد الزمني عند اليونانيين والغربيين فيما بعد. وهو مشتق من فعل Strato أي حشَّد وجَيَّش. وهذا يعني أنّ هذا البعد أضيف له في عصر التنظير في النصف الأول من القرن التاسع عشر. لذلك يرى الدكتور العرفاوي أنّه بالإمكان إضافته إلى مفهوم التّفكير المقاصدي، رغم وجود هذا البعد أصالة في عدة أنواع من الفقه المقاصدي مثل فقه المآلات وفقه التّوقّع. ليخلص بذلك إلى نعت الفقه المقاصدي بـ"الفقه الاستراتيجي".

وكان من أوّل من فهم البعد التّوقّعي (البعيد أو الاستراتيجي) لفقه المقاصد إمام الحرمين الجويني الذي أسّس فقه التّوقّع تأسيسا علميا واضح المعالم. واعتمد على الواقع للنّظر في إشكاليات المستقبل والتهيؤ لها. وهذا هو لبّ التّفكير الاستراتيجي في الإدارة العصرية، إنّه فهم تحوّل بيئة المنافسة للمنظّمة على المدى البعيد وذلك اعتبارا لتحليل الواقع والماضي.

مشروعيّة الاهتمام بالفكر المقاصدي

يرجع الدكتور العرفاوي تنامى الاهتمام بالفكر المقاصدي من طرف الباحثين المعاصرين في الفكر الإسلامي. وهم، في أغلبهم دعاة تجديد للفقه بصفة خاصّة، لمواءمته مع متطلبات العصر المتحركة بسرعة واستمرار. فهذا الرّيسوني يقول، في تصديره لكتاب "قواعد المقاصد عند الإمام الشّاطبي"، لمؤلفه الدكتور عبد الرّحمان إبراهيم الكيلاني: "لا أبالغ إذا قلت إنّ العلوم الشّرعية والدّراسات الإسلامية في هذا العصر تشهد صحوة وبوادر نهضة في مجال مقاصد الشّريعة والفكر المقاصدي بصفة عامّة".

الاستراتيجيا هي علم أو فنّ الجمع بين عدّة إجراءات مختلفة والتّنسيق بينها لتحقيق هدف ما وضع مسبّقا. والاستراتيجيا التي عُني بها الكاتب في هذا البحث هي استراتيجيا المؤسسات بالمفهوم الإداري الحديث، وما الدّوّل إلّا منظمات بحجم أكبر تتناول الاستراتيجيات: الاقتصادية والعسكرية والاجتماعية والإعلامية والتّكنولوجية والتّعليمية والثّقافية..
ويؤكّد في هذا الإطار أنّ التّفكير الاستراتيجي ليس غريبا عن الفكر الإسلامي منذ البعثة النبوية. وقد وجد فيه كما وجد في كلّ الحضارات السّابقة واللّاحقة للحضارة الإسلامية. ويضيف العرفاوي بالقول: "إنّه مقارنة مع التّفكير الاستراتيجي، فقد بدأ العمل بالفقه المقاصدي منذ عصر النّبوّة. وكان استعمال الفقهاء، على مدى التّاريخ الإسلامي، للفقه المقاصدي تلقائيا وعند الحاجة. يقول الدكتور نور الدّين الخادمي:’’ العمل بالمقاصد منهج قديم وقع تطبيقه في العصر النّبوي وعصور الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب رضي اللّه عنهم، كما كان مستحضرا لدى عموم المجتهدين واغلب الفقهاء والأصوليين".

 وتواصل ذلك على مدى تاريخ الإسلام إلى يوم النّاس هذا، حيث بدأت تظهر بعض الدّراسات الأكاديمية له. ولكن لم تبدأ هذه الدّراسات الأكاديمية للفقه المقاصدي ومقاصد الشّريعة والتّنظير لها بصفة رسمية إلا منذ صدور كتاب’’ الموافقات’’ لابي إسحاق الشّاطبي، ثم استلم محمد الطاهر بن عاشور في العصر الحديث هذا النوع الجليل من الفقه، حتى شاع بين النّاس وتضاعف اهتمام علماء الشّريعة به تصنيفا وتنظيرا. وتعدّد المختصّون فيه وتنوّعت أعمالهم من أمثال علال الفاسي ويوسف القرضاوي وأحمد الرّيسوني ونور الدّين الخادمي وغيرهم كثيرون.

الغاية من التّفكير الاستراتيجي

الاستراتيجيا هي علم أو فنّ الجمع بين عدّة إجراءات مختلفة والتّنسيق بينها لتحقيق هدف ما وضع مسبّقا. والاستراتيجيا التي عُني بها الكاتب في هذا البحث هي استراتيجيا المؤسسات بالمفهوم الإداري الحديث، وما الدّوّل إلّا منظمات بحجم أكبر تتناول الاستراتيجيات: الاقتصادية والعسكرية والاجتماعية والإعلامية والتّكنولوجية والتّعليمية والثّقافية.. والبحث الذي بين أيدينا يتناول التّفكير الاستراتيجي المقاصدي للمنظمات والدّوّل وتجمّعات الدّوّل. ويطلق المختصّون على استراتيجيات الدّوّل مصطلح "الاستراتيجيات الشّاملة" للتّفريق بينها وبين استراتيجيات المؤسسات الرّبحية وغير الرّبحية. كما يطلقون على التّخطيط الاستراتيجي للدّوّل مصطلح "التخطيط الاستراتيجي الشّامل". ويمكننا، وامتدادا لذلك، أن نتحدّث عن "التّفكير الاستراتيجي الشّامل" و"التّفكير الاستراتيجي المقاصدي الشّامل"، وهما مصطلحان يستحدثهما البحث الرّاهن.

إنّ الغاية من التفكير الاستراتيجي هي بناء خطّة استراتيجية قابلة للتّنفيذ. لذلك يعتبر التّخطيط الاستراتيجي المرحلة الأهم في هذا التّفكير. ويمر ّالتّخطيط نفسه بعدّة مراحل تنتهي عند بداية التنفيذ، أي أنّ التّخطيط عملية ذهنية لتحديد معالم الخطّة وهو من أجل ذلك ينضوي تحت التّفكير. ولا يتوقّف هذا التّفكير مع انطلاق التّنفيذ بل يتواصل ليراقب ويعدّل الخطط بأنواعها، ولا تستثنى المرجعيات (الرؤية والرّسالة والغايات العامّة والقيّم) من المراقبة والتّعديل لأنّها فعل بشري قابل للخطإ والصّواب، ولكن لابدّ من موافقة الإدارة العليا للمنظمة قبل إحداث أيّ تغيير على مضامينها. أمّا في المشروع الإسلامي فإنّ المرجعيات مستثناة من المراجعة والتّعديل لأنّها نصّ قرآني مطلق موضوع للتّنزيل في الواقع وجوبا وفي كل ظرف وحال.

دور التّفكير المقاصدي في أداء التّفكير الاستراتيجي المقاصدي

إنّ الغاية من كلّ عملية تفكير هي إنتاج أفكار في موضوع معين. وبذلك تكون غاية التّفكير الاستراتيجي المقاصدي إنتاج أفكار استراتيجية تحترم مقاصد الشّريعة العامة. وستتّصف هذه الأفكار بالنظرة المستقبلية بعيدة المدى، وستكون حلولا لمشكلات وتساؤلات تهم التشكل المستقبلي لبيئة التّفكير، وهي الواقع العام للمجتمع المسلم بكل مكوناته الاقتصادية والتشريعية والاجتماعية والسياسية والثقافية...وتتمدد هذه البيئة لتضم واقع الأقليات المسلمة خارج المجتمعات الإسلاميّة، وأيضا كل من يقبل التعامل مع هذا الأسلوب في التّفكير. هذا المنتوج الفكري الاستراتيجي المقاصدي سيكون أساسا لبناء مخرجات تنفّذ على مدى زمني بعيد في هذه البيئة.

إن تفاعل التفكير المقاصدي مع التّفكير الاستراتيجي، يضيف البعد الأخلاقي للحدّ من وحشية الخطط الاستراتيجية البحتة، ذلك أنّ التّفكير الاستراتيجي مبني على المصلحة الضيقة الرّبحية للمنظمة إلى حدّ القبول بالقضاء النهائي على المنافس في البيئة الخارجية. وقد ظهرت هذه الوحشية في الخطط الاستراتيجية البحتة في عدّة مجالات تهم وجود الإنسان على الأرض، مثل تلوث البيئة المادية التي يعيش فيها، وضرب الميزة الاجتماعية للمجموعة البشرية، وقد تمثّل ذلك في المفهوم المطلق للحرية الجنسية ممّا قضى على مقوّمات الأسرة ولحمة المجتمع وتجدّده الديموغرافي، حيث لم تعد الأسرة هي الخلية الأولى التي يبنى ويتواصل على أساسها المجتمع، بل أصبح بالإمكان وجود علاقات جنسية لا أسرية تعوّض الأسرة وتحدّ التجدّد السكاني.

إن تفاعل التفكير المقاصدي مع التّفكير الاستراتيجي، يضيف البعد الأخلاقي للحدّ من وحشية الخطط الاستراتيجية البحتة، ذلك أنّ التّفكير الاستراتيجي مبني على المصلحة الضيقة الرّبحية للمنظمة إلى حدّ القبول بالقضاء النهائي على المنافس في البيئة الخارجية.
والتّفكير الاستراتيجي، أساس التخطيط، يحدّد سياسات الدّولة في كلّ المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثّقافية...لذلك فهو يحدّد مثلا الموقف من مفهوم الحرية بصفة عامّة. وقد اتّصف موقف الغرب الأوروبي والشّمال الأمريكي بالحرية الجنسية المطلقة، وتابعته بقية الدّول ذات التّاريخ المسيحي في ذلك، وعانت نفس المشاكل الدّيمغرافية المتمثّلة بصفة خاصّة في انخفاض الزيادة السّكّانية إلى مستويات تهدّد الاستقرار السّكّاني للمجتمع.

وقد ظهرت هذه الوحشية في التّعامل مع البيئة والمجتمع بسبب رفض مرجعية الدّين في حياة المجتمعات. والأسلوب الجديد في التفكير يقترح العودة إلى هذه المرجعية، ليس فقط في مجال الأعمال بل أيضا في كل ما يهمّ حياة الإنسان على وجه الأرض.

لكل ذلك، سيكون دور التّفكير المقاصدي في صلب أسلوب التّفكير الجديد دور المليّن لوحشية الخطط الاستراتيجية البحتة. وسيعمل على تحقيق المقاصد العامّة للشّريعة الإسلامية، التي هي في الحقيقة مقاصد تتبنّاها كل الدّيانات السماوية قبل تحريفها والتّصرّف فيها من طرف رجال الدّين.

وهذا يعني أنّ الجانب المقاصدي في التّفكير الاستراتيجي المقاصدي سيرافق كل مراحل التّفكير والتّخطيط والتّنفيذ ليرشّدها ويجعلها متطابقة مع هذه المقاصد العامّة للديانات السماوية. وهذا التّرشيد سيبدأ منذ اللّحظات الأولى للتّفكير في بناء الخطط للمنظمات أو الدّول أو تجمّعات الدّول، ولا يتوقّف أبدا ما دامت هذه الكيانات البشرية موجودة.