لقد كانت الخلافة العثمانية فاتحة الأناضول وصاحبة
الامتياز في أسلمة القسطنطينية "إسطنبول"، ورافعة الأذان على صرحها "أيا
صوفيا"، وجارة العرب اللصيقة بهم.
ولم يكن لتلك الدولة الكبيرة أن تُغفل جارتها العربية
الثرية بمقدساتها -دون سواها- من مسرى النبي صلى الله عليه وسلم ومعراجه في فلسطين،
ومن الحرمين الشريفين والمسجدين الكريمين "المكيّ والنبوّي" في الجزيرة
العربية.
وشاءت إرادة الله وحكمته كذلك أن تحل الدولة القوية محل الأخرى
ممن أصابها الضعف والوهن، حيث خطت الدولة الأموية خطوات كبيرة في تاريخ الإسلام
وحاضر المسلمين.
ثم حلّت الخلافة العباسية القوية محلّ الأموية حينما
ضعفت وخارت قواها، ثم توالت دول وإمارات تحكم هنا وهناك، حتى قامت الدولة السلجوقية
المباركة فاقتطعت الأناضول من فم البيزنطينين، ثم خلَفَهم العثمانيون حينما تدهور
حال السلاجقة، فشدوا من عزم البلاد وأزر العباد واستكملوا مسيرة الفتح في قلب أوروبا
شمالا وغربا إلى فيينا والمجر ورومانيا، واتجهوا إلى عمقهم الإسلامي في الجنوب، حينما
ضعفت قبضة العباسيين، ووصل العثمانيون إلى الجزيرة العربية واليمن السعيد -ساعتها!-
جنوبا، وفتحوا العراق وما بعده شرقا ووصلوا إلى المغرب غربا.. حتى حقّت عليهم سنّة
الله التي لا تُحابي أحدا حينما ضعفت دولتهم، فطمعت فيها أوروبا التي استنبتت في
بلادنا بذور الفتنة وجندت منها الطامعين البائعين لشرفهم من أجل السلطة والمال، فأعادوا
أصناما هدمها الإسلام (القومية) كما كانت القبائل تصنع قبل البعثة، فينادي رجال
عبس: يا لعبس! عصبية وأنَفَة حتى أبطلها الإسلام، وأعادها "كمال أتاتورك"،
و "جمال عبد الناصر"، و"ميشيل عفلق"، وسمعنا من يقول: العراقي
لا يحكمه غير العراقي والتركي لا يحكم غير التركي.
ولم يكتفوا بفك الارتباط الأممي بين الكرد والترك والعرب
والأمازيغ تحت مظلة جامعة، بل صنعوا حالة من العداء الممجوج بين الأعراق والإثنيات،
وأوكلوا المهمة إلى وكلائهم لضمان استمرار حالة الكراهية، فحرّفوا الكتب الدراسية
ليبثوا من خلالها في عقول الأجيال كمّا من الحقد والغضب الموجّه إلى الخليفة
والخلافة حين يأتي ذكرها! وفي الوقت ذاته تجد المديح للحملات الصليبية للفرنسيين
والإنجليز وغيرهم، التي وصفوها بالحملات التنويرية! متجاهلين بذلك أهدافهم وما قاموا
به من مذابح وأفعال، يندى لها جبين البشرية في مواجهة الثورات التي قابلتهم في
ليبيا والجزائر ومصر والشام.. إلخ.
وتابعوا مهمتهم وطوروا أدواتهم فحشدوا جيوشا من
الكارهين للخلافة بل وللإسلام نفسه! واستخدموا الفضائيات والصحف والدراما في الغمز
واللمز الدائم للخلافة العثمانية ولتركيا بثوبها الإسلامي لا العلماني! فلقد كانت
علاقتهم بتركيا ما قبل أردوغان على أحسن ما يكون، وهي التي لا تحسن سوى الإلحاد مع
الدين والقمع والقهر مع الشعوب، واستكمل الوكلاء مهمتهم، فجعلوا اعتلاء المنابر مقصورا
على بعض المحسوبين على التيار السلفي الخانع من دعاة المدخلية، وهؤلاء قد تربوا
على الحقد والكراهية لعزة الإسلام والمسلمين وعلى الانبطاح لأولي الأمر، حتى ولو هتكوا
الأعراض وضيّعوا البلاد وأعلنوا ولاءهم لعبدة الأصنام والصلبان.
أهمية الشراكة العربية التركية بالنسبة للأمن القومي
العربي
ولا يخفى على أحد كيف انتهى بنا الحال، فسلّم العراق
للشيعة، وقُسّمت ليبيا، وأُنهك اليمن الذي بات أهله في أبئس حال، ومُزِّقت سوريا وتبعها
السودان، وحُكم لبنان بالطائفية البغيضة، وضُرب الفقر على مصر وتونس، ولم يكتفوا
بذلك بل طمعوا في إنهاء قضية "القدس" فيما يعرف "بصفقة القرن".
ولم يبق للعرب إلا شراكتهم مع رفيق عزهم وشريك مجدهم طيلة قرون خلت حتى مطلع القرن
العشرين.
نعم "
تركيا" بثوبها الحالي وهي في عنفوان
قوتها رغم المؤامرات المذهلة! بدأت تعود أدراجها إلى أسباب عزّتها وقوة
ساعدها، وانتقلت بثوبها الحالي من مصاف الدول المَدينة لصندوق النقد الدولي، إلى الوجود
بين الدول العشرين الكبرى. وقد تطورت في المجالات الزراعية والصناعية كافة، لا سيما
الصناعات الدفاعية، وأحدثت معداتها وآلاتها العسكرية من مسيّرات وطائرات وصواريخ
وأنظمة للدفاع الجوي، فرقا في مناطق الصراع في ليبيا وسوريا وإقليم "كاراباخ"
الساخن بين أذربيجان وأرمينيا، وبات الطلب على أسلحتها والشراكة التجارية معها والاستعانة
بخبرائها في السياحة والصناعة والاستثمار من الدول كافة، وغالبية المؤسسات المالية
والدولية.
وأثبتت الأزمات التي حدثت أن تركيا شريك قوي وسبيل للإنقاذ
السريع، وراجعوا دورها التي قلبت فيه الطاولة على المتآمرين في أزمة الحصار الذي
ضُرب على "قطر"! وفي أزمة طرابلس الليبية، حتى أرجعت المتآمرين خطوات
إلى الخلف.
إن المنطقة العربية متخمة بخطط شديدة الخطورة، ولو نجحت
القوى الخارجية ونجح وكلاؤها في مهمتهم فسيصل التقسيم إلى كل دولة، وستُستنزف
موارد وثروات المنطقة، بل وسيصبح سيناريو الحرب والتدمير جاهزا لتركيع كل من بقيت
لديه ممانعة في الانحناء لإسرائيل وللغرب من خلفها.
"تركيا" إذن هي طوق النجاة، وقد أثبتت قوتها الناعمة
واستقلاليتها وحيادها في الوساطة بين روسيا وأوكرانيا حتى شهد لها طرفا الصراع.
وأوروبا وأمريكا يشاهدون صامتين، لا تحسنان غير التحريض
والشحن.