ذاك الفنان
الكبير والروح المتقدة بعشق
المسرح وسحره وجنونه الذي لا ينتهي، عبد الرحمن عرنوس
البورسعيدي، الجدع الشاطر الذي بدأ حياته المسرحية بكل عزم وهمّة أن يقدم ما يراه
وما يريده لمعشوقه المسرح.
بدأ نبوغ عبد
الرحمن عرنوس لافتا الأنظار إليه أثناء دراسته في المعهد العالي للفنون المسرحية؛
قسم تمثيل وإخراج، وقد تخرّج فيه بتفوق لكي يبدأ مسيرة فنية طموحة مليئة بالضحك
والدموع، بالفشل والنجاح.
ولعل سبب تعاسة
هذا المسرحي الكبير هو نفسه سر انطلاقه وتميّزه، فقد آثر عرنوس الحق على الزيف،
أراد لمسرحه أن يقول الحقيقة لا نصف الحقيقة، أراد بشكل أو بآخر أن يستثمر كل
أبجديات المسرح لنقد كل المعطيات الثقافية والسياسية والاجتماعية، وكذلك ما طرأ عليه
من تغييرات. ولذلك اصطدم بمسارح القطاع العام والخاص وقتذاك، وكفر بها وانتقدها
وهاجمها بعنف وضراوة، وقد بادله أصحاب المسارح وكذلك المتنفّذون بالأمور هجوما
بهجوم، وضيّقوا عليه فرص الرزق، ولكنه أبدا لم يستسلم.
وجاب القرى
والمحافظات ليقدم مسرحَه المؤمن به، مسرح الحقل والجرن، مسرح الناس البسطاء
الطيبين. ولعل أهم ما قدمه عرنوس عرضه الناقد والرافض لهزيمة ٦٧، وضرورة شحن الهمم
لاستعادة الأرض والعرض.
وكذلك إنشاؤه لما
سُمي بمسرح القهوة، وقد احتضنت جهوده قهوة أسترا بميدان التحرير. وقد أقام عرنوس
بروحه الوثابة والتوّاقة لكل ما هو جديد وحر، مسرحا صغيرا في المقهى، في تجربة علّها
تكون الأولى والأخيرة بتاريخ المسرح
المصري. وقد أضاء المسرح الصغير بفوانيس تقترب
من الفوانيس الكلاسيكية القديمة للحنطور.
وقد كان المنظر
العام برغم بساطته وفقره؛ مبهرا وموحيا وملهما وساحرا في الوقت ذاته، وفي وقت قصير
أصبح هذا المسرح يجمع المواهب الشابة والفنانين من كل صوب وحدب. فقد كان من روّاده
كل فرقة المشاغبين لقرب مسرح قهوة أسترا من مسرح الفنانين المتحدين، وقد كانت تمتد
عروض المسرح وما يصاحبها من أمسيات ثقافية بديعة حتى خيوط الصباح الأولى، فكان
يحضرها على سبيل المثال لا الحصر، محمد فاضل وعلي بدرخان ونجيب محفوظ. وفيها تم اكتشاف
الوجوه الشابة وقتذاك، محمود الجندي كمغن أول، قبل أن يتجه إلى
التمثيل، وكذلك علي
الحجار، والشعراء الشباب وقتذاك، عبد الرحمن الأبنودي وفؤاد حداد والكبير صلاح
جاهين ولويس جريس ويوسف شاهين وسيد حجاب وغيرهم. وقد كان لكاتب هذه السطور أيضا
حضور على خشبة مسرح القهوة وقد شرفت بهذا، وكان هذا إبان دخولي للمعهد العالي
للفنون المسرحية مباشرة.
ولكن لم تَسِر
الأمور كما تمناها عرنوس، فقد أغلقت القهوة أبوابها وتحولت مع الزمن لمحل بيع
الأكلات السريعة، وكذلك الحال لمعظم مقاهي المنطقة، وقد خسرت منطقة وسط البلد
زخمها الثقافي التي كانت تتمتع بها، إلا من رحم ربي. فتوجه عرنوس إلى الأردن، حيث
وجد ضالته المنشودة في عمل مختبر للتدريب على التمثيل وإعداد الممثل والممثلة
الجيدين، كان ذلك بجامعة اليرموك في بداية ثمانينيات القرن المنصرم.
وقد سجّل نجاحا
كبيرا في الأردن، أحدث ونتج عنه جيل كامل من الفنانين الأردنيين، ما زالوا يدينون
بفضله، ويتصدرون المشهد
الفني والمسرحي هناك، منهم المخرج حكيم حرب مدير فرقة
الرحالة المسرحية، الذي يقيم مهرجانا مسرحيا في الفضاءات المفتوحة، ودورته القادمة
باسم عبد الرحمن عرنوس، عرفانا وتقديرا لما قدّمه لهم من علم نافع وأستاذية حقة،
فلا كرامة لنبي في وطنه.
وعندما انتهت
بعثته إلى الأردن وعاد للمعهد العالي للفنون المسرحية في القاهرة، لم تسر الأمور
كما تمناها، وتعثرت خطاه، وعانى ما عانى من الجاحدين وناكري الجميل والحاقدين أيضا،
حتى تمكن منه المرض، ورحل عن عالمنا غاضبا حانقا على كل مظاهر القبح والتي تسيّدت
وأصبحت عنوان مرحلة مع شديد الأسف والأسى.
برحيل عرنوس رحل
معه الحلم والطموح والجنون والجمال.