منذ ربع قرن وأكبر صادرات
السودان هو البشر، فرغم ان السودان مرَّ
بطفرة نفطية ما بين 1990 و1999 إلا أن عائداتها لم تكن ملموسة لا في مجال الخدمات
الضرورية، ولا على مستوى الحياة اليومية للمواطنين، فصارت الهجرة مبتغى معظم
السودانيين، وظفر بها فقط ذوو الخبرات العملية والمؤهلات المهنية والأكاديمية التي
يشتد عليها الطلب في الدول العربية الخليجية وأوروبا والولايات المتحدة، وهكذا صار
السودان يواجه حال شح شديد في بعض المهن الضرورية، وأدى عامل الندرة هذا إلى
ارتفاع أسعار الخدمات التي تقدمها القلة القليلة ذات الدربة والمهارات اللازمة.
تواجه
مصر أوضاعا اقتصادية صعبة، ولكنها وبالنسبة لأهل السودان، باتت
الفردوس المفقود، ورغم أنه ليس من حسن الفطن الركون إلى المعلومات التي تصدر عن
حكومة السودان العسكرية الحالية، لأنها مجبولة على تزييف الحقائق وأرقام
الإحصاءات، إلا أن تقارير سلطات معبر أرقين البري في شمال السودان، والذي تكتمل
عنده إجراءات دخول السودانيين إلى مصر، عن الأسبوع الأول من شهر آذار/ مارس
الجاري، تقول إن 37 ألف سوداني يدخلون مصرا برا يوميا، ورغم أن عددا كبيرا منهم
ذاهب لتلقي العلاج أو التعليم، إلا أن بضعة آلاف منهم يدخلون مصر للاستقرار فيها.
عدد السودانيين المقيمين في مصر حاليا يربو عن الخمسة ملايين، بضعة
آلاف منهم باعوا ممتلكاتهم في السودان واشتروا عقارات في مدن مصرية، ويمارسون
أنشطة تجارية تعود عليهم ببعض المال، ولكن غالبية تلك الملايين تمارس أعمالا
هامشية، في بلد يهاجر شبابه أفواجا إلى مختلف الوجهات طلبا للرزق.
أما الكارثة التي لن يستطيع السودان استدراكها في المستقبل القريب،
فتتمثَّل في هجرة 80% من الكوادر الصحية والطبية، ومعهم أساتذة الجامعات والمهنيين
من مهندسين وبياطرة ومحاسبين، ويقدر عدد الأطباء السودانيين في أيرلندا مثلا بنحو
2500 طبيب، ما يعني أن عددهم في بقية مكونات بريطانيا (إنجلترا وويلز واسكتلندا)
يناهز الخمسة آلاف، وفي عام 2017 كان عدد الأطباء السودانيين في السعودية يربو على
الـ 9000، بينما إجمالي عددهم في السودان دون ذلك بكثير (لا توجد إحصاءات يمكن
الوثوق بها، ولكن لا يوجد مستشفى واحد في السودان فيه العدد المطلوب من الأطباء،
بل هناك تخصصات مثل جراحات العيون، والمخ والأعصاب، حصة كل مليون ونيف مواطن منها
جراح واحد).
تقارير الأمم المتحدة تفيد بأن فلسطين، ولأسباب مفهومة، في صدارة "الدول" التي يهاجر أهلوها طلبا للعيش الكريم الآمن، تليها على مسافة غير بعيدة سوريا ثم السودان، ثم العراق، ثم المغرب، ثم مصر، ثم لبنان، ثم اليمن، فموريتانيا فالجزائر فتونس، ومن عجب أن الأردن، وهو بلد صغير المساحة، شحيح الموارد الاقتصادية ذات العائد المرتفع، هو من أقل دول العالم تعرضا لنزف العقول بالهجرة.
لحين طويل من الدهر، كان المغتربون السودانيون يحولون إلى وطنهم زهاء
خمسة مليارات دولار سنويا، ثم وبسبب السياسات الخرقاء لحكومة عمر البشير المبادة
خضع السودان لعقوبات اقتصادية ومالية حرمته من الارتباط بالنظام المصرفي العالمي،
ثم سقطت تلك الحكومة، وحلت محلها حكومة مدنية في منتصف عام 2019، قطعت شوطا طويلا
في التخلص من تلك العقوبات وحظيت بمنح وتسهيلات تمويلية ببلايين الدولارات، ولكن
قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان انقلب عليها في تشرين أول/ أكتوبر من عام
2021، وجلب على البلاد عقوبات أكثر صرامة، بينما آلت أمور البلاد الاقتصادية لوزير
مالية يقول صراحة إنه يأخذ من جيب المواطن لـ"يصرف على المواطن".
تقارير الأمم المتحدة تفيد بأن فلسطين، ولأسباب مفهومة، في صدارة
"الدول" التي يهاجر أهلوها طلبا للعيش الكريم الآمن، تليها على مسافة
غير بعيدة سوريا ثم السودان، ثم العراق، ثم المغرب، ثم مصر، ثم لبنان، ثم اليمن،
فموريتانيا فالجزائر فتونس، ومن عجب أن الأردن، وهو بلد صغير المساحة، شحيح
الموارد الاقتصادية ذات العائد المرتفع، هو من أقل دول العالم تعرضا لنزف العقول
بالهجرة.
طالعت قبل سنوات حكاية صبي مصري ابن 12 سنة، ذهب إلى مكتب شركة مصر
للطيران في مدينة الإسكندرية، وقدم جواز سفر ومعه رزمة من الأوراق المالية لموظفة
في المكتب، وطلب منها أن تعطيه تذكرة إلى كندا، ولأن كل أنثى أم أو مشروع أم، فقد
قلبت تلك الموظفة جواز السفر واكتشفت أنه يخص أم الصبي، وسألته بلطف ما إذا كانت
أمه على علم باعتزامه السفر إلى كندا، فشرح لها الصبي كيف أنه فتح خزانة ملابس أمه
بعد خروجها للعمل، وعثر على الجواز والأوراق المالية، فوجدها سانحة لتحقيق رغبته
في الهجرة، فلما سألته الموظفة "ولماذا كندا بالذات"؟ قال إنه سمع أن
طلاب المدارس فيها لا يتعرضون للعنف الجسدي واللفظي.
هذا الفتى المصري الفصيح لخص حال جيل كامل من العرب: ضرب وشتائم في
المدارس، وضرب وشتائم في الشوارع، ومطاردات ومداهمات بوليسية وسجن وتشريد لكل من
يفكر بصوت مرتفع، وصحيح ما قاله الشاعر:
يقيم الرجال الموسرون بأرضهم وترمي النُّوى بالمقترين المراميا
وما أبلغ علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وهو يقول، إن الفقر في الوطن
غربة وإن الغنى في الغربة وطن، ولكن ملايين العرب، وعلى رأسهم السودانيون، هاجروا
من أوطانهم بحثا عن الأمن والسلامة، وهكذا يهرب ذوو العقول من بلدان يتحكم فيها
عجول، يهشمون كل ما هو غال ونفيس فيها.