أكبر مشكلة يمكن أن تواجه السلطة
المصرية والمعارضة
معاً، أن تفقد مصر قيمتها الاستراتيجية والتاريخية، وتفتقد للنظرة
الإقليمية والدولية التقليدية لها.
فقيمة مصر الاستراتيجية هي التي أبقت مبارك في سدة الحكم
ثلاثين عاماً، في استقرار، وهي نفسها التي دفعت الولايات المتحدة الأمريكية في
فترة ما للضغط من أجل هامش ديمقراطي معقول يكون سبباً في الاستقرار من أجل استمرار
الحكم؛ وعدم دفع واشنطن ثمن الاستبداد بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، وقيمتها
كانت كذلك وراء تحول الموقف الدولي من مبارك، بقيام الثورة، وفي القبول بنتيجة
الانتخابات وفوز الدكتور محمد مرسي، ثم التحول لتأييد الانقلاب العسكري على الحكم
الشرعي. فماذا بقي من قيمة استراتيجية للمحروسة؟!
إذا حدث لسبب أو لآخر وتوقفت المقاومة في غزة، فلا دور لمصر تقوم به، ولا مهمة تكلف بها، لا سيما وأن واشنطن تأمن على أمن إسرائيل مع أي بديل، والعدو الذي تخشاه هو الفوضى، وهي وإن كانت قد رحبت بالانقلاب، فمن أجل الاستقرار، لكن السيسي ليس مبارك، وإن ظل على مدار الساعة يضغط بإصبعه على الزناد، لإنهاء حياة من يفكر في الثورة عليه، فالاستقرار ليس هو ما يفرض بقوة السلاح!
المؤسف أن يتم اختزال القيمة في معبر رفح، فمن خلال
حارسه يمكن الضغط على قيادة المقاومة، وهو أمر يدركه الرئيس الأمريكي، الذي تنازل
واتصل برأس السلطة في مصر من أجل التفاوض مع حماس لقبول وقف إطلاق النار مع
الإسرائيليين، وهو الدور الذي طلبه من القاهرة والدوحة معاً، لكن القوم في أم
الدنيا وجدوها فرصتهم ومن ثم فقد طلبوا أن يقوموا بالمهمة منفردين. وإذا حدث لسبب
أو لآخر وتوقفت المقاومة في غزة، فلا دور لمصر تقوم به، ولا مهمة تكلف بها، لا سيما
وأن واشنطن تأمن على أمن إسرائيل مع أي بديل، والعدو الذي تخشاه هو الفوضى، وهي
وإن كانت قد رحبت بالانقلاب، فمن أجل الاستقرار، لكن
السيسي ليس مبارك، وإن ظل على
مدار الساعة يضغط بإصبعه على الزناد، لإنهاء حياة من يفكر في الثورة عليه،
فالاستقرار ليس هو ما يفرض بقوة السلاح!
الإقليم والثورة:
الإقليم، ممثلاً في السعودية والإمارات، لم يكن سعيداً
بالثورة، كما لم يكن سعيداً بفوز مرشح الإخوان بالانتخابات الرئاسية، فنجاح
التجربة يغري بتصديرها أو استيرادها، والخليج دفع من لحم الحي ثمن الخوف من تصدير
الثورة الإيرانية، وعلى مدى تسع سنوات هي عمر الحرب العراقية الإيرانية التي خاضها
صدام حسين بالوكالة، ومن "لسعته الشوربة ينفخ في الزبادي". وهناك سبب مضاف
للتدخل يتمثل في حكم المشروع الإخواني، وقد يكون الفزع أقل حدة لو فاز في
الانتخابات مرشح من القوى المدنية، أو مرشح ينتمي بدرجة أو بأخرى للدولة المصرية
القائمة؛ عمرو موسى أو أحمد شفيق!
الإقليم هو الذي دفع الغرب للاعتراف بسلطة الانقلاب، وهو
الذي أنشأ الإعلام الذي ساهم بدرجة كبيرة في شيطنة مرحلة الرئيس محمد مرسي، وقام
بتمويله!
ودفع الإقليم كثيراً من أجل تعويم النظام الجديد، وبحسب
جريدة "القبس" الكويتية، فإن إجمالي ما دفعه
الخليج لمصر منذ الثورة وإلى
كانون الأول/ ديسمبر 2019 هو 92 مليار دولار، استناداً لمصادر في البنك المركزي
المصري، ما بين
مساعدات، وقروض، واستثمارات. وهو مبلغ لم تحصل عليه مصر حتى في وقت
الحروب، وعلى مدى نصف القرن السابق، بما في ذلك عهد مبارك الذي تخلى عن الدور
المصري لصالح المملكة العربية السعودية، قانعاً بدوره بجانبها!
وقديماً قيل "خذ من التل يختل"، وتكمن المشكلة
في هذا التصور الذي عبرت عنه التسريبات في بداية عهد السيسي، في أن الخليج لديه
أموال ضخمة، لا يعرف أين ينفقها، وبالتالي فالنظام الجديد مؤهل لهذا الإنفاق.
وفضلاً عن أن التسريبات أكدت بُعد الجنرال عن شؤون الدولة المصرية، لأنه كان يعتقد
أن مصر لم تتقاضَ ثمن خوضها لحرب تحرير الكويت، وهذا غير صحيح، فالإشكالية في
النظرة التقليدية للإنسان الخليجي، فهو دائماً يملك أموالاً لا أول لها ولا آخر، وبقليل
من الحيل يمكن الذهاب به للبحر والعودة به عطشاناً. وهي صورة نمطية ساهمت فيها
الدراما، وعندما موّلت بعض المؤسسات الخليجية بعض الأعمال الدرامية المصرية، لم
تهتم بتغيير هذه الصورة النمطية!
يستقر في وجدان الجنرال، أنه مطلوب لشخصه في الإقليم، ولقدرته على إسكات المعارضة الإسلامية بالذات بقوة السلاح، ومن هنا وجب عليهم الاستمرار في تمويله، ولهذا أخذ أموالهم إلى مشروعات بلا عائد، اعتقاداً منه أن مصر ستعيش عالة على دول الخليج (السعودية والإمارات) تحديداً، وإلى الأبد، فالبديل له هم الإخوان، ولهذا جعل من التنظيم الإخواني فزاعة
وقد لا تكون نظرة مبارك مختلفة، لكنه في النهاية كان
يتصرف في إطار الأصول، فحاز على ثقة القادة السعوديين بالذات، وقنع بنصيبه من هذه
العلاقة، بدون احتيال أو ابتزاز!
فزاعة الإخوان:
ويستقر في وجدان الجنرال، أنه مطلوب لشخصه في الإقليم،
ولقدرته على إسكات المعارضة الإسلامية بالذات بقوة السلاح، ومن هنا وجب عليهم
الاستمرار في تمويله، ولهذا أخذ أموالهم إلى مشروعات بلا عائد، اعتقاداً منه أن
مصر ستعيش عالة على دول الخليج (السعودية والإمارات) تحديداً، وإلى الأبد، فالبديل
له هم الإخوان، ولهذا جعل من
التنظيم الإخواني فزاعة.. يستسلم الإخوان للوضع
القائم، ومع هذا يحرص على الإبقاء عليهم مطاردين ورهن الاعتقال، وكلما انكمشوا
تقرر أن يعيد في موضوعهم ويزيد، لدرجة أن يمول مسلسلاً ليؤكد فيه ضمن ما يؤكد أن
التنظيم لا يزال خطراً على حكمه!
والمشكلة الأكبر في الاعتقاد أنه يمكن أن يبيع المطلوب للدولتين
أكثر من مرة، ويناور في تسليم ما تم دفع ثمنه بالفعل، فلا يسلم المباع ولا يرد
ثمنه، على أساس أن القوم مضطرون للتعامل معه حتى لا يعود الإخوان للحكم!
لقد كانت دولة مثل الإمارات تعتقد أن التأييد الإسرائيلي
للسيسي من شأنه أن يدفع الإسرائيليين إلى تبنيه وتعويمه، فيعومون هم على إثر ذلك،
لكنهم فوجئوا بأن إسرائيل لم تنجح في فرضه على الإدارة الأمريكية الجديدة. وكان
الإماراتيون قد تجاوزوا مصر حتى في الملف الذي احتكرته لسنوات طويلة، وهو الخاص
بالتطبيع مع إسرائيل، فكانت بوابة للعرب الذين يريدون ذلك، لكن الإمارات تعاملت مع
تل أبيب بشكل مباشر بدون وسطاء، فماذا بقي لمصر من دور؟!
مصر مهمة للاستثمار الخليجي، لأنه في ظل الظروف الاقتصادية البائسة فكل شيء قابل للشراء، ثم إنه يمكن الشراء لصالح الغير، الذي لا يمكنه الشراء مباشرة. ومع هذا يبدو أن الرتق قد اتسع على الراتق
لقد ملّ الخليج من مناورات الجنرال، وسياسة إرسال
الرسائل، يتقرب من قطر كرسالة للإمارات، ويتقرب من السعودية كرسالة أيضاً لها، ثم يلتقي
بمحمد بن زايد كرسالة لمحمد بن سلمان، والمناورات السياسية إن لم تكن قائمة وفق
الأصول، في التعامل مع الخليج، فقد تدفع القوم ليذهبوا بعيداً!
إن مصر مهمة للاستثمار الخليجي، لأنه في ظل الظروف
الاقتصادية البائسة فكل شيء قابل للشراء، ثم إنه يمكن الشراء لصالح الغير، الذي لا
يمكنه الشراء مباشرة. ومع هذا يبدو أن الرتق قد اتسع على الراتق، فذهبت أبو ظبي
للاستثمار في كوريا الجنوبية بـ30 مليار دولار. وكانت قد قررت 10 مليارات دولار
لتأسيس صندوق لدعم الاستثمارات في تركيا! والسعودية قالت بتخصيص 3.3 مليارات دولار
للاستثمار في تركيا أيضاً.
ومع ذلك فلن تقطع الدولتان علاقتهما بالقاهرة، لكنها مع
ذلك لن تستطيع أن تواصل تقديم المساعدات والقروض، واعترف السيسي نفسه بأن الخليج
لم يعد معه كما كان. لكنه لن يحصل على ذات المبالغ التي حصل عليها في السابق، ومن
هنا كان الهجوم على السعودية في وقت واحد من قبل ثلاثة من الإعلاميين المرتبطين
بالنظام، تحت بند
الهجوم على عمرو أديب، الذي يدافع عن المشروع السعودي الذي
يتناقض مع المشروع المصري، وهي سياسة لا تصلح مع الخليجيين.
توقف الخليج عن رعاية الانقلاب العسكري لا يعني سقوطه، فقد وقف الإقليم وراء انقلاب قيس سعيد، ثم تركوه ولم يموّلوه ليجد قبولاً شعبياً إذا حلت مشاكل البلد الاقتصادية، حيث أوكلوه لذاته
والمنطق، أن يدفعوا ليحافظوا على ما دفعوه، لكن في
النهاية إنهم أمام قاعدة "خسارة قريبة ولا مكسب بعيد"، لا سيما وأنه مع
زيادة مساحات الغضب في الداخل المصري، يجعل الوضع على كف عفريت، ومهما دفعوا فلا
يمكن التغلب على هذه الحالة، ليصبح النظام مستقراً ولو لعشر سنوات قادمة!
ويحدث هذا في وقت فقدت فيه مصر مكانتها الاستراتيجية، من
حيث كونها الشقيقة الكبرى، فالشقيقات الصغيرات كبرن، ولم يعدن بحاجة إلى خدماتها!
توقف الخليج عن رعاية الانقلاب العسكري لا يعني سقوطه،
فقد وقف الإقليم وراء انقلاب قيس سعيد، ثم تركوه ولم يموّلوه ليجد قبولاً شعبياً
إذا حلت مشاكل البلد الاقتصادية، حيث أوكلوه لذاته، إيماناً من الرعاة بأن اللعبة
أعجبته وسيواصل التمسك بها، ليكون أضعف منقلب؛ قوته الوحيدة في ضعف خصومه، والسيسي
أقوى من قيس سعيد، لكن معارضيه أقل همّة من المعارضة التونسية!
ومهما يكن، فلم يعد له من بواكي.
twitter.com/selimazouz1