في واحد من أغرب الأخبار، أعلنت وسائل إعلام جزائرية وفي مقدمها
وكالة الأنباء الرسمية أن وزارة التجارة
الجزائرية فوضت مسجد باريس بمنح شهادة "حلال"
للمنتجات المطابقة للشريعة الإسلامية المصدرة من
فرنسا نحو الجزائر، وفي مقدمتها
اللحم.
وتم تسليم مقرر التفويض إلى عميد مسجد باريس الكبير، شمس الدين حفيظ،
من قبل وزير التجارة، كمال رزيق، وذلك على هامش معرض الإنتاج الوطني بقصر المعارض
بالجزائر العاصمة.
وفي كلمة له بالمناسبة، أوضح رزيق أنه من المقرر أن يتوسع الإجراء
مستقبلا إلى المنتجات الآتية من كل القارة الأوروبية ثم من باقي دول العالم.
وأكد الوزير أنه سيتم خلال الأيام القليلة القادمة ضبط عملية
الاستيراد فيما يتعلق بالمنتجات الاستهلاكية بالوسم "حلال".
بدا محيرا، بل "تراجيكوميديا" فعلا كلام زير التجارة
المثير للجدل، حتى لا نقول السخرية، بسبب مواقفه وتصريحاته المتناقضة، هو الذي سوق
مرارا منذ تعيينه وزيرا للتجارة منذ ما يقارب الثلاث، عن إنجازات وهمية في ما سميت
بـ"جزائر تبون الجديدة"، وفي مقدمها تحول الجزائر إلى بلد مورد وليس
مستورد، وحديثه مثلا عن "تصدير كراع الدجاج"! وإلى جانب هذا مواقف
الوزير السابقة لمهاجمة لـ"خرنسا" الاستعمارية، كما كان يصف فرنسا!
من جهتها، تنقل وكالة الأنباء الجزائرية عن عميد مسجد باريس الكبير،
قوله إنّ منح مثل هذا التفويض يعد “التفاتة طيبة للجالية الجزائرية المقيمة
بالخارج” مؤكدا أن “مسجد باريس سيكون أهلا للثقة التي وضعتها فيه الدولة الجزائرية”،
وأكد أنه سيتم اتخاذ جميع الإجراءات الضرورية حتى يكون الوسم “حلال” إشهادا حقيقيا.
وكشف عن تكليف 120 إماما لمراقبة مختلف المنتجات القادمة إلى
الجزائر، مشيرا إلى أنه بداية من العام الجديد 2023 ستكون كل المنتجات
"الحلال" القادمة من فرنسا بوسم مسجد باريس.
وكالة الأنباء الجزائرية تكشف كذلك عن توقيع وزارة الشؤون الدينية
الجزائرية ومسجد باريس الكبير، على دفتر الشروط الخاص بوضع إشهاد “حلال” على مختلف
السلع الاستهلاكية المصدرة من فرنسا نحو الجزائر.
وإن كان هناك "أكبر سعيد" في كل هذا هو عميد مسجد باريس
شمس الدين حفيظ، الذي كان قد تعرض قبل أيام فقط لهجوم من عبد الرزاق مقري، رئيس ما
يقدم على أنه أكبر حزب إسلامي بالجزائر ـ (بكل الجدل المثار حوله كذلك!)ـ والذي
اتهم حفيظ بـ"الخيانة"، على خلفية “حضوره ندوة شاركت فيها السفيرة
الإسرائيلية بفرنسا”. ودعا السلطات الجزائرية لاتخاذ الإجراءات اللازمة تجاه هذا
الذي فُرض ليمثل الديانة الإسلامية في فرنسا وهو الذي لا يصلح لذلك أبدا"،
على حد قوله.
وكتب مقري على صفحته بفيسبوك، مستنكرا أن "عميد مسجد باريس
المعروف بعلاقته بالسلطات الجزائرية يحضر ندوة نظمتها مجلس الجمعيات اليهودية في
فرنسا بحضور سفيرة الكيان”، داعيا “الجزائريين المقيمين في فرنسا أن يعبروا عن
رفضهم لهذا التصرف المشين المناقض للموقف الرسمي الجزائري ولموقف الشعب الجزائري".
يبدو كل هذا المشهد " تراجي ـ تراجيديا" فعلا، بكل أبعاده،
ولعل أكثرها "مأساوية" أن بلدا بحجم الجزائر، الذي تفوق مساحته مساحة
فرنسا 5 مرات، ولديه جالية فيها تقدر بـ5 ملايين شخص، يستورد المواد الاستهلاكية
"الحلال"، وفي مقدمها اللحم من المستعمر الفرنسي السابق الغاشم، بعد
ستين سنة من الاستقلال، الذي جاء بعد تضحيات جسام وثورة تحريرية عظيمة، مازال
يتخذها الذين قادوا الجزائر إلى هذا الوضع المحزن كـ"سجل تجاري"،
يتاجرون به في مهاجمة "خرسنا" أمام الستار، فيما يعالجون ويهربون
الأموال عندها خلف الستار، كما كشف كتاب "الجزائرـ فرنسا.. قصة عاطفية"،
الذي أعده الصحفي الفرنسي كريستوف ديبوا، والصحفية الفرنسية ماري كريستين تابي، من
أن "على الأقل 50 مليار يورو من الأموال المنهوبة، تم تهريبها من الجزائر إلى
فرنسا بعلم المخابرات الفرنسية" خلال عشريتين!
والـ"مضحك البكي" في سياق الحديث عن اللحم الحلال، أن
تقريرا كشف أن عددا كبيرا من المسؤولين الجزائريين، الذين يقيمون في فرنسا، وهربوا
الأموال عندها، يستثمرون في محال بيع اللحم الحلال في فرنسا! وقد لا يكون مستغربا
أن يتحول هؤلاء إلى "بارونات لتصدير اللحم الحلال" إلى الجزائر، التي
نهبوها وساهموا في إيصالها إلى هذا الوضع!
الـ"مضحك البكي" في سياق الحديث عن اللحم الحلال، أن تقريرا كشف أن عددا كبيرا من المسؤولين الجزائريين، الذين يقيمون في فرنسا، وهربوا الأموال عندها، يستثمرون في محال بيع اللحم الحلال في فرنسا!
المفارقة كذلك أن كل هذا جاء بالتزامن مع زيارة وزير الداخلية الفرنسي
جيرالد موسى دارامانان، للجزائر في ما اعتبر مؤشرا آخر على عودة "الدفء
للعلاقة بين باريس والجزائر". وكان دارامانان صرح "أن وجود المنتجات
الحلال في المتاجر يصدمه"، واعتبرها عنوانا لـ"الانفصالية الإسلامية"!
وجاءت زيارة جيرالد موسى دارامانان، الرسمية والعائلية، للجزائر بدعوة
من السلطات الجزائرية (كما تردد)، وشملت زيارة لمسقط رأس جده موسى واكيد، الذي
يحمل اسمه الأوسط، في دوار أولاد غالي الواقع ببلدية المنصورة بولاية مستغانم، غرب
الجزائر، والذي كان تم تجنيده في الجيش الفرنسي وخاض معه الحرب العالمية الثانية.
وخلال الزيارة تم استقباله من قبل الرئيس الجزائري تبون، ووصف
دارامانان محادثاته مع تبون بـ"الثرية" في مشهد مغاير لما كان عليه قبل
عام، عندما انتقد تبون دارامانان مناديا إياه بنبرة ساخرة بـ"موسى
دارمانان"، في إحالة لأصوله الجزائرية، واتهمه بـ"الكذب" بسبب
تصريحات درامانان عن قضية تسليم مهاجرين جزائريين.
وكان موسى دارمانان، وفي دفاعه على رئيسه ماكرون، زايد خلال حملة
الانتخابات الرئاسية الأخيرة، في التهجم على الإسلام، على مرشحة اليمين المتطرف
مارين لوبان، حينها، والتي هاجمت اللحم الحلال، التي قالت إنه فرض سيطرته في
فرنسا، وتوعدت بمنع الذبح الحلال في حال فوزها بالرئاسة. وأعلنت قبلها بسنوات منع
تقديم اللحم الحلال في مدارس البلديات، التي يسيطر عليها حزبها، وفرض لحم الخنزير
في الطعام المقدم!
وكانت مارين لوبان اتهمت مرارا بالنفاق في هذه القضية، خاصة بعد
الكشف أن واحدا من أكبر المقربين إليها والداعمين الماليين لحزبها، هو رجل الأعمال
بول لامواتييه، الذي يعتبر من أكبر ملاك شركات اللحم الحلال في فرنسا!
وتضع تقديرات حجم قطاع المنتجات الحلال في فرنسا عند 5.5 مليار يورو
من حجم يقدر عالميا بـ1500 مليار يورو، وإن كان معلقون يرون أن هذا الرقم مبالغ
فيه في فرنسا، فإنهم يؤكدون أن القطاع عرف ويعرف نموا لافتا. وفي هذا السياق كان
من المفترض منطقيا أن يكون بلد بموقع وحجم الجزائر، الذي يمتلك أكبر جالية مسلمة
في فرنسا، هو من يصدر المنتجات الحلال لفرنسا، ولغيرها وليس يستورد منها!
*كاتب جزائري مقيم في لندن