لا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه، ولهذا فإن
الذين يتحسرون على حكم مبارك، ما كان لهم أن يفعلوا لولا أنهم خرجوا من حفرة
ليسقطوا في بئر ليس لها من قرار!
بمناسبة ذكرى حرب أكتوبر المجيدة، ظهر جمال مبارك لزيارة
قبر والده، ليكون في استقباله لفيف من الناس الذين لم يعرفهم في أيام السلطة، وهم
من البسطاء، والطبقة المتوسطة، وقد هتفوا باسمه، وخاطبوه بـ"الريس"،
وترحموا على زمن والده، فكانت رسالة لا تخطئ العين دلالتها، وهي رسالة إلى معلوم
العنوان مع تعدد قصوره ومقار إقامته، ولهذا كان الهجوم على الفاسد ابن الفاسد من
جانب اللجان الإلكترونية للجنرال!
أما أنه لا يعرفهم، فجمال مبارك هو صاحب المشروع الذي
يمثل مرجعية للسيسي، وإن كان الأخير تطرف في تنفيذه لنكون أمام طبعة رديئة منه.
فعندما انضم نجل الرئيس إلى الحزب الوطني الحاكم في سنة 2000، لم يقابَل حضوره
بالترحيب من قبل قيادات الحزب والحرس القديم فيه، لا سيما الأمين العام للحزب
الوطني الدكتور يوسف والي، الذي عامله بحدة في اجتماعات الحزب لمناقشة نتائج الانتخابات
البرلمانية لهذا العام، وكان موقفه قريباً من مواقف ثوار يوليو 1952 من الديمقراطية،
فليس فقط عبد الناصر الذي انحاز حيناً للديمقراطية، فحتى المشير عبد الحكيم عامر طالب
بها في فترة خصومته مع عبد الناصر، ولم يكن هذا عن إيمان، وإنما من باب المناورات
السياسية!
كانت رسالة لا تخطئ العين دلالتها، وهي رسالة إلى معلوم العنوان مع تعدد قصوره ومقار إقامته، ولهذا كان الهجوم على الفاسد ابن الفاسد من جانب اللجان الإلكترونية للجنرال!
قال جمال مبارك إن نتيجة الانتخابات تقول إن الشعب يريد
التغيير، وأن التغيير ينبغي أن يكون من القمة للقاع، وضرب يوسف والي على المنضدة،
وهو يوضح له أنه يعرف الشعب أكثر منه، وأنهم من سمحوا له بالتعبير عبر الانتخابات، وإذا أغلقوا غداً الباب، فلن يتكلم أحد عن التغيير!
كانت هذه المرة الأولى التي تجرى فيها الانتخابات تحت الإشراف
المنقوص للقضاء، فلم تتجاوز النسبة التي حصل عليها الحزب الوطني 36 في المئة،
ونظراً لأن المعارضة لم تكن جاهزة لهذا التطور، فإن الناس انتخبوا الذين استبعدهم
الحزب الوطني من قوائمه، واضطر لقبولهم بعد ذلك لتحقيق ما أسماه صفوت الشريف
بالأغلبية المريحة، وذلك على عكس ما كان يحدث في السابق؛ فمن يخرج على "طوع"
قيادات الحزب، لن يقبله الحزب في صفوفه مرة أخرى!
الثمن المدفوع:
لقد دفع يوسف والي ثمن هذه المواجهة في الانتخابات
التالية في 2005، عندما بدأ جمال مبارك في السيطرة على الحزب الوطني، فقد تركته قوات
الأمن يسقط، ويتطاول عليه الناخبون، لينجح مرشح جماعة الإخوان المسلمين، وفي ذات
الانتخابات حاولوا معاملة كمال الشاذلي بالمثل، لكنه كان يمثل نفوذا حقيقياً في
دائرته فأحبطت الجماهير مخطط حبيب العادلي وزير الداخلية (خادم البلاط)، وفاز
الشاذلي ليتم تهميشه بعد ذلك لصالح أحمد عز، الذراع الأيمن لجمال مبارك، الوجه الجديد
للمرحلة الجديدة!
لقد تبين أن التغيير الذي يريده مبارك الابن هو تغيير
قيادات الحزب، بما يسمح له أن يكون هو الرمز الأوحد فيه، ولهذا أعاد تشكيله في المحافظات
من خارج الإطار التقليدي لحزب الدولة، وبشخصيات من خارج السياسة، لا يغير من طبيعة
ذلك أنهم أساتذة بالجامعات، أو محامون كبار، وإن ضم نخبة لها علاقة بالسياسة في
قاعات الدرس، فإنها على قطيعة بها واقعاً، مثل محمد كمال، وعلي الدين هلال، وعبد
المنعم سعيد، وجهاد عودة! بجانب من أطلقت عليهم "المستشرقين" حينذاك.
وكانت الدعاية من خلال الفيديوهات الجامعة للمصريين تؤكد
أن القوم ليسوا من هنا، فحتى صورة الريفي لا يوجد ما يميزه عن غيره سوى أنه يرتدي
الجلباب، فلا عمامة، ولا شارب، ولا عباءة، وما إلى ذلك من سمت الريفي التقليدي. ومجموعة
الأفندية ليسوا سادة في مجتمعاتهم، وهو ما لفت الانتباه إليه في حينه، فجمال مبارك
ليس مبارك الأب، الذي يعرف الريف باعتباره منه، وإن عاش في عزلة شعورية في حياته
الأولى، فقد ترك التعامل مع الموروث السياسي لمن هم ينتمون للبيئة
المصرية، فلم
يغير في الخريطة التي سعى جمال مبارك لتغييرها كلية، لمرحلة عنوانها أحمد عز!
المجتمع الذي لم يكن يعرفه جمال مبارك وهو في الحكم، هو الذي يذهب إليه الآن، سواء عندما ذهب لمطعم شعبي في أكثر الأحياء شعبية هو حي إمبابة، بصحبة شقيقه الأكبر، وقد استقبله الناس هناك بترحاب شديد، الأمر الذي أفزع السيسي نفسه، فكان التحذير له بأن يلزم بيته، وخضع لذلك، ثم إذا بهذه الطبقة هي التي تهتف باسمه
وهذه التجربة قلدها
السيسي، لكن بالاستغراق في الشكل،
وليس هذا هو الموضوع، ولهذا فإن ثورة يناير لم تكن في مواجهة حقيقية مع الحزب
الوطني القديم، لكن كانت في مواجهة مع الدخلاء على الحزب، فلم تكن لديهم الإرادة
اللازمة للمواجهة وتركوا الأمر للجهاز الأمني للدولة ليتصرف كلية، وقفزت قيادات
الحزب من السفينة الغارقة، الأمر نفسه وبصورة أكثر هلعا ستحدث لغلمان المرحلة، إذا
حدث
غضب في الشارع المصري!
الريس:
فالمجتمع الذي لم يكن يعرفه جمال مبارك وهو في الحكم، هو
الذي يذهب إليه الآن، سواء عندما ذهب لمطعم شعبي في أكثر الأحياء شعبية هو حي
إمبابة، بصحبة شقيقه الأكبر، وقد استقبله الناس هناك بترحاب شديد، الأمر الذي أفزع
السيسي نفسه، فكان التحذير له بأن يلزم بيته، وخضع لذلك، ثم إذا بهذه الطبقة هي
التي تهتف باسمه، وتخاطبه بما كان يحلم به، وما تتوقعه له، وهو لقب
"الريس"!
لدي شك في أن هذه المظاهرة تلقائية، فمنذ متى والبسطاء
يقومون بزيارة قبور السياسيين والقادة؟ فالقبر الوحيد الذي يحظى بذلك هو ضريح جمال
عبد الناصر، والزائرون في جملتهم ليسوا من البسطاء ولكنهم من النخبة الناصرية وفي
مناسبات معروفة!
فأن يشد الناس الرحال إلى هناك، ليكونوا في استقبال جمال
مبارك، ثم يقال إنه مشهد تلقائي، قد يكون صحيحاً لكني لا أستوعبه، وفي الحالتين فإنه
حضور لافت، ولا يمكن اعتباره يأتي في سياق أنه ابن في زيارة قبر أبيه. فالملاحظ
هنا هو غياب علاء مبارك، ليستأثر الابن الأصغر بالكاميرات والقيل والقال، مع
التذكير بأن بيان رد الاعتبار للوالد ألقاه جمال، وليس علاء النجل الأكبر للرئيس
السابق!
ويدرك "الأخوان مبارك" ما يفعلانه بالضبط، منذ
الاستقبال الرئاسي في الإمارات، فلا يمكن اعتبار أن هذا كله من فراغ، في وقت ليست
فيه العلاقات الإماراتية المصرية كما كانت. ولدى الدوائر الإقليمية والدولية
اعتقاد بأن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر، ومن الطبيعي أن تبحث الإمارات عن بديل إذا
جدت في الأمور أمور، يضمن الحفاظ على وضعها في مصر، ولا يجعل ما دفعته دعماً
للنظام العسكري ديوناً معدومة!
يدرك "الأخوان مبارك" ما يفعلانه بالضبط، منذ الاستقبال الرئاسي في الإمارات، فلا يمكن اعتبار أن هذا كله من فراغ، في وقت ليست فيه العلاقات الإماراتية المصرية كما كانت. ولدى الدوائر الإقليمية والدولية اعتقاد بأن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر، ومن الطبيعي أن تبحث الإمارات عن بديل إذا جدت في الأمور أمور
قد كان الفريق أحمد شفيق هو خيار الإمارات الاستراتيجي،
لكنه أثبت أنه أكبر من أن يكون تحت الوصاية عندما تحرك للسفر إلى فرنسا، وحصل على
تأشيراتها دون علم الدولة المضيفة، أو حتى مناقشتها في الأمر، فلم تجد حيال ذلك
إلا أن ترسله لمصر "عربون محبة" للسيسي، الذي لا يحفظ جميلاً ولا يصون
عشرة!
فبدا واضحاً أن عطاء الإمارات رسا على جمال مبارك، الذي
يعد رقماً مقلقاً للسيسي حتى قبل هذا التبني، ويستشعر الجنرال الخطر القادم من نجل
الرئيس السابق، منذ أن بدأ جولاته في الشارع والمقاهي والمطاعم. ومن هنا كان
التحذير له من جانب الراحل ياسر رزق بأن يلزم بيته، وفي وقت توقف فيه الثوار عن
الحديث عن فساد عائلة مبارك، فإن من يتحدث هو الأذرع الإعلامية للسيسي وذبابه
الإلكتروني!
وكان واضحاً أن الخوف منه مبكر، وإذ حرص العسكر على
الحصول على البراءة لمبارك وأسرته في كل القضايا التي اتهم فيها، فقد جاءت الإدانة
في قضية القصور الرئاسية، لوضع عتبة أمام طموح جمال في العمل السياسي، وكان إجراء
الضرورة التي تقدر بقدرها، وهو ما قلته تعليقاً على الحكم في يوم صدوره!
لكن حكم الإدانة فقدَ الآن الأثر المانع من الترشح،
والملاحظة المهمة أن السيسي بدأ في الآونة الأخيرة
الاستعانة برجال جمال مبارك،
مثل حسام بدراوي وعلي الدين هلال، ومعه منذ البداية عبد المنعم سعيد. وقد نُقل عن
قيادات في الحزب الوطني حسرتهم أنهم لم يرشحوا بدراوي في الانتخابات الرئاسية
الأخيرة، فهم لا ينسون للسيسي أنه غيّر خريطة السياسة، واختياراته من "قعر
القفص" بحسب تعبير تجار الخضار، وقد استغل خوف حسام بدراوي من تردد ما قيل ومبالغته
في تأييد الوضع الراهن!
فاته أن قيمة جمال مبارك ليست في من حوله، فهم نقطة
ضعفه، لأنهم اختيارات باهتة لأناس لا وزن لهم في الشارع، فقيمته في كونه ابن
الرئيس السابق، وكان يطمح في الرئاسة، ولدى مؤسسات الدولة العميقة وشخوصها يقين لا
يتزعزع أن ثورة يناير مؤامرة من الجيش، للوصول إلى مرحلة إبعاد مبارك ونجله، ليحكم
السيسي. ومن بين أسباب إبداء الجنرال العداوة ليناير هو تغيير هذه الصورة، لكن لو
أقسم على الماء فتجمد، ثم قال إنهم في الجيش لم يحموا الثورة، ولم يكونوا وراءها
فلن يصدقهم هؤلاء!
قيمة جمال مبارك ليست في من حوله، فهم نقطة ضعفه، لأنهم اختيارات باهتة لأناس لا وزن لهم في الشارع، فقيمته في كونه ابن الرئيس السابق، وكان يطمح في الرئاسة، ولدى مؤسسات الدولة العميقة وشخوصها يقين لا يتزعزع أن ثورة يناير مؤامرة من الجيش، للوصول إلى مرحلة إبعاد مبارك ونجله، ليحكم السيسي
موقف جمال من السيسي:
لقد قال مبارك كلمتين على مضض لصالح السيسي، لم يبادر
بهما لكن دُفع إليهما، ولم يكرر التجربة مع المحاولات، لكن جمال مبارك وإن لم يعلن
ترشحه (فهذا سيكون إعلان حرب)، إلا أنه لم ينف عدم رغبته في الترشيح، ثم إنه لم
يتورط فيما تورط فيه سياسيون يحسبون على المعارضة من تأييد السيسي، وأحدهم كان
يطمع في الرئاسة مثل حمدين صباحي!
إن السيسي وزمرته يدركون أن ظهور جمال مبارك ليس وفاء
لعظم التُربة، ولكنه حضور سياسي بامتياز، ولهذا فقد هرولوا إلى حذف ثلاثة أخبار من
موقع "القاهرة 24"، عن هذه الزيارة، وهو موقع يدار من قبل الأجهزة
المعاونة لنظام السيسي. ولست مع القائلين بأن النشر خلفه جهات بعينها، لكن بحكم
اطلاعي على المشهد الصحفي وأعرف تفاصيل الإدارة فيه، فقد يكون الأمر مرتبطا بأن
مسؤول النشر ليس لديه الوعي السياسي العام، فاعتبر نشاط جمال مبارك في هذا اليوم
تريند، ولهذا قلت منذ الخبر الأول إنه سوف يُرفع عندما ينتبه لذلك أهل الحكم، وهو
ما حدث فعلاً، فكان الحذف إشارة إلى الوعي بهذا الحضور ودلالته وما يمثله لحكم
السيسي!
إن دوائر إقليمية قد ترى جمال مبارك هو البديل المعقول
لحكم السيسي، إذا تقرر أن يغادر بضغط شعبي، أو بالوفاة!
وإن من بين مؤسسات القوة في مصر من تراه الخيار الأفضل
لها، وبعضها يراه أفضل من أي خيار ثوري، أو إسلامي، إذا تعذر أن يكون البديل من
مؤسسة الجيش، أو عسكريا سابقا!
وإن أنصار الحزب الوطني القديم يرون أنه قد يعيدهم إلى
مركز الصدارة من جديد بعد أن استوعب الدرس وأيقن أنه القوة الحقيقية، فإن لم يفعل
فيكفي أنه أفضل من الوضع الحالي، الذي أنهى حضورهم بجرة قلم، لصالح من هم من
"قعر القفص"، ومن عاشوا في الريف المصري يعرفون ما تخفيه صدور هؤلاء!
السيسي وزمرته يدركون أن ظهور جمال مبارك ليس وفاء لعظم التُربة، ولكنه حضور سياسي بامتياز، ولهذا فقد هرولوا إلى حذف ثلاثة أخبار من موقع "القاهرة 24"، عن هذه الزيارة
أما الحزب الوطني الجديد الذي صنعه جمال مبارك على عينه،
فهو عنوان الانتهازية، وهو مع من غلب، وفي النهاية لا يعول على موافقه في الشارع!
بيد أن جمال مبارك ليس مناضلاً، ولن يخوض معركة من أجل
الترشح في ظروف غير مواتية، ولو بذات الخطوة التي اتخذها أحمد شفيق وسامي عنان،
لكن أهميته في أن وجوده سيجعل الدوائر المختلفة التي تقبل بالسيسي باعتبار أنه لا
بديل له؛ تتراجع عن ذلك!
ومما يطمئن أنه عندما يقرر جمال مبارك الترشح للانتخابات
الرئاسية سيكون هذا الحق متاحاً لغيره، ممن يستوفون الشروط القانونية للترشيح،
ويومها لن يكون هو خيارنا!
لكن حضوره الآن مفيد لمزيد من القلق لأهل الحكم.. وما
يعلم جنود ربك إلا هو!
سطور أخيرة:
هذه المرة الأولى التي نتذكر فيها المشير أحمد إسماعيل،
وزير الحربية في ذكرى
حرب أكتوبر!
تذكره أحد المعلقين فأشاد به، فكانت الإشادة بمثابة كلمة
سر الليل لمن انطلقوا يهاجمونه استناداً لرأي الفريق الشاذلي فيه، وفي المقابل
بالغ البعض في التأكيد على عبقريته العسكرية.
الحكم على الأشخاص لا يكون هكذا، والمسكوت عنه أن قيادات
الجيش لم تكن مع فكرة الحرب، فقد كان وزير الحربية الفريق صادق يرى أنها قد تأتي
بهزيمة أخرى، فعزلهم السادات واختار أحمد إسماعيل بهدف تمرير قراره بالحرب! وعندما
تسقط تفصيلة مهمة كهذه، يرتبك السياق كله.
twitter.com/selimazouz1