بل هي بداية البدايات فليس ما يحدث اليوم في تونس وقبله في مصر وما يحدث في ليبيا وسوريا والسودان وغيرها من الأقطار إلا البداية الحقيقية لطور التغيير الذي انطلق من تونس أواخر سنة 2010. هذا هو الإطار الكبير لتفاعلات المشهد العربي في مكوناته الصغرى أي أنّ الرِدّة التي عرفها مسار الثورات هي نتيجة طبيعية بل حتمية وضرورية لكل مسار ثوري عرفه التاريخ.
لقد عرفت كل الثورات عبر العالم ثورات مضادة تعمل على استعادة النظام القديم وإحياء الاستبداد وهو الشرط الضروري الذي سينتجُ حتميا ردة فعل تصحيحية تسترجع مكاسب المنجز الشعبي اليوم أو غدا. رَدّة الفعل هذه ليست مشروطة بمدّة زمنية بل هي وعي باطني بضرورة إصلاح العطب ومراجعة الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها نخبٌ تسلمت السلطة بعد سقوط الاستبداد. لم يحدث عبر التاريخ أن نجحت ثورة حضارية حقيقية منذ موجتها الأولى إلا إذا كانت ثورة مزيفة مثلما هو حال الثورة الخمينية في إيران أو الثورة الشيوعية في روسيا القيصرية واللتان انتهيتا إلى أبشع الأنظمة العدوانية القمعية.
ليس هذا القول نثرا للورود ولا تعلّقا بالسراب بل هو قول في قلب الفيزياء الاجتماعية وفي جوهر قانون حركة تاريخ الشعوب والمجتمعات لأن الحركة لا تموت وإن سكنت ما دامت شروطها قائمة وهي لا تتوقف إلا متى توقفت شروط الحركة عن التفاعل والتكثّف. شروط التغيير إذن لا تزال قائمة بل هي ازدادت حدّة وقوة بعد القمع الرهيب الذي سُلّط على الشعوب الثائرة وتضاعف الوعي بشراسة الدولة العميقة وبقدرتها على التجدد والمراوغة والغدر.
الاستفتاء
أميط اللثام عن نتائج الاستفتاء على الدستور الجديد وعن مشروع الرئيس وهو المشروع الذي ينبئ في الظاهر عن إغلاق قوس الثورات وعن نهاية الحلم التونسي في تأسيس نموذج ديمقراطي يقطع مع عقود من الاستبداد والقمع. هذا هو ظاهر المشهد بقطع النظر عن نسبة المقاطعة التي تجاوزت 75% من أصوات المسجلين وما تخلل العملية من إخلالات.
ليس المشكل هنا في شخص الرئيس أو في شخوص المعارضة بل كل الخطر يستهدف الوطن ويستهدف التجربة التونسية ومن ورائها العربية في إرساء نظام ديمقراطي تعددي لأول مرة في تاريخها. لن يكون الرئيس على حقّ لأنه خرق الدستور ولأنه جمّع كل السلطات بيده وألغى كل الهيئات الدستورية ووضع يده على السلطات الثلاث التي هي عماد الديمقراطية والمجتمعات الحرة. ولن تكون المعارضة على حق لأنها فشلت فشلا ذريعا في تحصين المسار الانتقالي من الفوضى ومن التناحر الذي أوصل البلاد إلى حالة كارثية من الاحتباس والشلل. المشكل إذن لا يمكن في هذا الطرف أو ذاك وحده دون الآخر لأن كليهما مشارك في الأزمة القاتمة التي تغرق فيها تونس يوما بعد يوم وهي الأزمة التي سيدفع الشعب وحده تكلفتها الباهظة من قوته ومصادر رزقه.
إنّ بلوغ المسار الانتقالي التونسي هذه النقطة الحاسمة من انكسار التجربة الانتقالية يعني أنّ البلاد والمجتمع والمؤسسات لم تستوف شروط الاكتمال والنضج التي تسمح لها بمنع الانكسار.
فأنصار الرئيس يرون أنه لا يمكن العودة إلى الوراء لأن عشر سنوات كانت كافية للفريق المقابل حتى يثبت أنه عاجز عن تسيير البلاد ومنع الانزلاق نحو الفوضى أما خصومه في المعارضة فيرون أنّ التغيير لا يكون بالاستفراد بالسلطة وتغيير نظام الحكم وإغلاق كل المؤسسات الدستورية بل يكون بالحوار والتشاور والإجماع على رأي وسط.
هذا التجاذب هو الذي ولّد حالة الاحتقان التي تعيشها تونس اليوم وهي تعجز عن بلوغ الاستقرار اللازم لتجاوز المخاطر المحدقة بالبلاد بسبب تداعيات الأزمة العالمية. الكل إذن مشارك في صناعة الكارثة والجميع مسؤول عن المآلات الكارثية للحالة التونسية التي تبقى مفتوحة على المجهول.
ما بعد الاستفتاء
إنّ بلوغ المسار الانتقالي التونسي هذه النقطة الحاسمة من انكسار التجربة الانتقالية يعني أنّ البلاد والمجتمع والمؤسسات لم تستوف شروط الاكتمال والنضج التي تسمح لها بمنع الانكسار. بعبارة أخرى فإنّ فشل المسار لأسباب داخلية وخارجية معلومة يعني أنّ المناخ العام للبلاد كان قابلا لذلك وأنّ النخب التونسية لم تُحصّن نفسها أمام الهزات الارتدادية وغرقت في تفاصيل الحروب الداخلية والتناحر الحزبي الذي كان يقود البلاد نحو الفشل. كانت النخب السياسية التونسية التي تسلمت السلطة بعد الثورة مشغولة بهاجس الحكم مسكونة بمرض الزعامة وعقدة الغنيمة وفرصة الظهور والمطامح الشخصية بدل وضع الأسس الصلبة لمسار انتقالي محصّن من الانفجار الداخلي.
إن رفض عجائز النخب التونسية مغادرة المشهد والانسحاب المشرّف من ساحة المعركة وتسليم المشعل للجيل الجديد هو أحد الأسباب الرئيسية التي ستعيق نشأة خطاب سياسي واقتصادي جديد ينصبّ على المشاكل الواقعية والمشاغل اليومية للفرد والجماعة بدل الخوض في جدل فكري عقيم تجاوزته كل الأمم والشعوب.
بناء على ذلك فإنّ عودة حكم الفرد الواحد الذي يجمّع بين يديه كل السلطات سيكون الشرط الأساسي الذي سيوحد من جديد القوى السياسية والمدنية من أجل استعادة المسار الثوري. إن تحقيق هذا الشرط سيكون مدعوما بالمطالب الاجتماعية والشعبية حيث ستدفع الطبقات الفقيرة وحدها فاتورة المسار الكارثي القادم يومَ يُحكِم الاستبداد قبضته على كل مفاصل الدولة والمجتمع. لكن هذا الشرط سيصطدم بعقبة أساسية ممثلة في بقاء نفس النخب والوجوه السياسية في المشهد وهي التي كانت السبب الأساسي في فشل المسار الانتقالي وفي عودة البلاد إلى مربع القمع ومصادرة الحريات.
إن رفض عجائز النخب التونسية مغادرة المشهد والانسحاب المشرّف من ساحة المعركة وتسليم المشعل للجيل الجديد هو أحد الأسباب الرئيسية التي ستعيق نشأة خطاب سياسي واقتصادي جديد ينصبّ على المشاكل الواقعية والمشاغل اليومية للفرد والجماعة بدل الخوض في جدل فكري عقيم تجاوزته كل الأمم والشعوب. وقد يكون من محاسن الانقلاب أنه كشف زيف هذه النخب وفضح عجزها عن تأمين مسار ثوري كان يملك كل مقومات النجاح بعد أن أغرقت البلاد في تجاذبات وصراعات وهمية استنزفت كل الطاقات وأفرغت المعركة من مضمونها الاجتماعي والاقتصادي.
سيكون من مشرّف أن تفتح القوى الحية في البلاد طور المحاسبة والمساءلة لكل من شارك عن قصد أو عن غفلة من سلطة ومعارضة في إعادة قافلة الثورة إلى مربّع الاستبداد حتى تستطيع الأجيال القادمة إعادة البناء على أسس صلبة تمنع كل أشكال الانزلاق باسم النضال وحقوق الإنسان والوطنية الزائفة.