تستند العلاقات التحالفية بين دول عربية و"
إسرائيل" إلى أهداف عاجلة، وإلى تصورات تأسيسية. الأهداف العاجلة أهمها النفوذ في العالم، وفي دول المركز الغربي على وجه الخصوص، وعلى نحو ما يمكن بذلك تفسير العديد من الاستدارات الدائرة في المنطقة الآن، حتى لدول جمعتها بـ"إسرائيل" علاقة متعرجة لا متصاعدة، تعود لشق طريق توحي بالتصاعد، ولكنها على الأرجح طارئة وتندفع بالحاجة اللحوحة، لا لتبريد المشكلات المحيطة فحسب، ولكن إمّا لتعزيز المكانة لدى دول المركز في مواجهة التحديات المحيطة، أو لتقليل احتمالات استهداف دول المركز من الخلف.
يعني ذلك بالتأكيد أن "إسرائيل" ثابت لا يتغير في سياسات دول المركز. هذا تصوّر تأسيسي تصدر عنه سياسات المنطقة الآن، كالتحالفات المعلنة (والتي تصدر عن تصوّرات أبعد من ثبات "إسرائيل" في سياسات دول المركز)، هذه التحالفات تشمل دول اتفاقيات "أبراهام"، ويمكن أن تنضم إليها دول أخرى ترتبط بعلاقات تصالحية تاريخية مع "إسرائيل"، كمصر والأردن، ودول أخرى قريبة في سياساتها الجارية من هذا الخطّ، كالسعودية، وأخرى ثمّة صراع على ساحتها لاختراقها وحسم توجّهها النهائي، كالعراق.
ثمّة دول تستدير في هذه اللحظة لضمان الاستقلال عن المحيط والحماية منه، بالتزام دور فريد في وسطه، وهو ما يقتضي تسوية كافية مع الولايات المتحدة، تتطلب بدورها علاقة "ما" بـ"إسرائيل"
ثمّة دول تستدير في هذه اللحظة لضمان الاستقلال عن المحيط والحماية منه، بالتزام دور فريد في وسطه، وهو ما يقتضي تسوية كافية مع الولايات المتحدة، تتطلب بدورها علاقة "ما" بـ"إسرائيل"، وهذا ما فعلته قطر منذ افتتاح المكتب التجاري الإسرائيلي فيها عام 1996، وأغلقته في الحرب على غزة 2008/ 2009، بمعنى أن المكتب ظلّ مفتوحاً 13 سنة، كانت فيها انتفاضة الأقصى واجتياحات الضفّة الغربيّة. العودة الآن لاستعادة نمط "ما" من العلاقات مع "إسرائيل" غير بعيدة عن هذه السياقات، لا سيما بعد عبور حصار دول الجوار، ومرحلة ترامب العصيبة.
لتركيا أسباب أخرى، فالدولة التي أقامت علاقات مع "إسرائيل" بعد أقلّ من عام على نكبة الفلسطينيين، لم تنقطع علاقاتها بـ"إسرائيل" ولكنها تعرّجت في فترات تالية من حكم العدالة والتنمية بحسب التعرّجات نفسها التي جرت في المنطقة. آخر تعرّجات المنطقة، فشل الثورات العربية التي راهن عليها العدالة والتنمية، واستعادة النظام العربي القديم أوضاعه، ولكن بتعزيز التحالف مع "إسرائيل". ومع غموض العلاقة بالمركز الغربي، وتقلّباتها، وعدم القدرة على حسم توجّهات
تركيا الخارجية، تصعد تركيا من جديد بعلاقاتها بـ"إسرائيل"، لتقليل المفاجآت والتقلبات غير المحسوبة، بما في ذلك مع دول المركز، إلى حين عبور انتخابات 2023.
مع غموض العلاقة بالمركز الغربي، وتقلّباتها، وعدم القدرة على حسم توجّهات تركيا الخارجية، تصعد تركيا من جديد بعلاقاتها بـ"إسرائيل"، لتقليل المفاجآت والتقلبات غير المحسوبة، بما في ذلك مع دول المركز، إلى حين عبور انتخابات 2023
تبدو الدوافع قريبة، والتصوّر حول الثبات الإسرائيلي في سياسات المركز الغربي مشتركاً، وإن اختلفت الرؤية للذات ودورها. وإذا كان هذا في الراهن، فهو كذلك على المدى الأبعد، إذ ثمّة اشتراك نسبي في تصوّر "إسرائيل" ثابت في الجغرافيا والعالم أيضاً، لا في سياسات المركز الغربي فحسب، ولا تبتعد عن ذلك رؤية الذات أيضاً، وإن تمايزت بين هذه الدول.
دفعت هزيمة العام 1948 نحو صعود الفكر الثوري في
العالم العربي، إلا أنّ هزيمة العام 1967 كانت تدفع ضمناً نحو فكرة القبول بـ"إسرائيل" والتعايش معها، في حالة انتصار متدرج لليمين العربي، وإن كان يكبح من ذلك صعود المقاومة الفلسطينية على حساب هزيمة النظام الرسمي العربي.
مرّت المقاومة بسلسلة إخفاقات كانت تصبّ في صالح اليمين العربي، كالخروج من الأردن (1970/ 1971)، والتورط في الحرب الأهلية اللبنانية، والنتيجة الملتبسة لحرب تشرين/ أكتوبر 1973، وخروج مصر من الصراع رسمياً (1979)، والخروج من لبنان (1982)، وحرب الخليج الثانية (1990/ 1991)، لتكون اتفاقية أوسلو (1993) البوابة الرسمية للتحالف العربي الإسرائيلي الجاري.
بات شراء رضا المركز الغربي هو محور السياسات الخارجية للدول العربية، وبعد استواء فكرة القبول بـ"إسرائيل" والذهاب بها كثيراً نحو التحالف، صارت "إسرائيل" ضمانة ثبات مصالح تلك النخب في سياسات دول المركز
أفضت الهزائم العربية، ومنها إخفاقات المقاومة الفلسطينية في تلك الحقب، إلى خلوّ الساحة العربية من الموقف الثوري المؤثّر، وتسيّد الموقف اليميني الذاهب نحو فكرة القبول بـ"إسرائيل"، وإمكان التعايش معها. ولمّا كانت المنطقة العربية مجزّأة بصراعات بينية لا تنتهي، لم يكن ثمّة أيّ إمكانية لأن تتبنّى الدول العربية الصغيرة مشاريع تفوق إمكاناتها، بينما الدول الكبيرة محكومة بنخب تنتهي مشاريعها عند ذاتها، أي عند النخبة الحاكمة، سواء كانت عائلية أم عسكرية، وبهذا بات شراء رضا المركز الغربي هو محور السياسات الخارجية للدول العربية، وبعد استواء فكرة القبول بـ"إسرائيل" والذهاب بها كثيراً نحو التحالف، صارت "إسرائيل" ضمانة ثبات مصالح تلك النخب في سياسات دول المركز.
القبول بـ"إسرائيل" أفضى إلى موت السياسة العربية (هل يمكن الحديث عن سياسة عربية؟ أو سياسات خاصة بهذه الدولة أو تلك ذات مغزى سوى تثبيت مصالح النخب الحاكمة؟)، واهتراء الاجتماع العربي. بيد أنّ هذا القبول وسّع من مسارات الهيمنة الإسرائيلية، بتذييل النظام الرسمي العربي لها، أو لوجودها، بمعنى أن القبول بها لم يفسح مساحات أوسع للاستقلال العربي الذاتي، بل ضيق من تلك المساحات، لصالح دولة صغيرة حقيقتها أنها طارئة على المنطقة.
إنّ الكفّ عن مشاغلة "إسرائيل" قَلَبَ الواقع العربي الكبير ذيلاً صغيراً لـ"إسرائيل"، والصورة أكثر سوداوية في الحالة الفلسطينية، فالحركة الوطنية انتهت إلى سلطة بلا قوام ومحكومة بالكامل إلى السقف الإسرائيلي، والمشروع الوطني انتهى إلى مصالح نخبة بلا مشروع سياسي، ويمكن بعد ذلك تخيّل مأساة الشعار التاريخي عن "القرار الوطني المستقلّ".
تغيير الواقع العربي ووضع أسئلته وقضاياه على طاولة البحث في العوامل والتوجهات الداخلية يتطلب حسم المؤثّر الإسرائيلي، بيد أنّه وإذا كانت النخب الحاكمة تقف على النقيض من هذا المتطلب، فإنّ قوى شعبية ومعارضات باتت تتراوح بين التقليل من خطر هذا المؤثّر المؤسّس في الواقع العربي الراهن، وبين الإنكار الكامل
تتداخل المعطيات في هذا المسار، بين واقعة التجزئة، وانحصار المشاريع السياسية في مصالح النخب الحاكمة، والهزيمة النفسية العميقة إزاء "إسرائيل" والاعتقاد باستحالة هزيمتها، وبين تصوّر ثبات "إسرائيل" في الجغرافيا والعالم، بيد أنّ هذا التصوّر يغيب عنه أنّ ثمن الثبات الإسرائيلي دوام التبعية العربية، بما يقتضي التجزئة والاستبداد والدونية العسكرية والاجتماعية. لكن مرّة أخرى من يهتم إن كان الأفق العربي الحاكم هو أفق النخبة لا الدولة ولا الأمّة؟
يرتبط الواقع العربي برمّته، بالوجود الإسرائيلي، ثمّ بالتفوق الإسرائيلي، بمعنى أن تغيير الواقع العربي ووضع أسئلته وقضاياه على طاولة البحث في العوامل والتوجهات الداخلية يتطلب حسم المؤثّر الإسرائيلي، بيد أنّه وإذا كانت النخب الحاكمة تقف على النقيض من هذا المتطلب، فإنّ قوى شعبية ومعارضات باتت تتراوح بين التقليل من خطر هذا المؤثّر المؤسّس في الواقع العربي الراهن، وبين الإنكار الكامل، وذلك إمّا لقضايا طارئة لحوحة قد تحمل بعض عناصر التناقض في الظاهر مع فكرة حسم المؤثّر الإسرائيلي، وإمّا لطول الأمد على انتصار الفكر اليميني العربي الدافع نحو التعايش مع "إسرائيل"، الذي يبدو أنه تسلل إلى تيارات عربية وإسلامية بنسب متفاوتة.
القاعدة التي تصوغها التجربة ووقائع التدافع في العالم، تقول: إنك إذا تركت "إسرائيل" في حالها، فلن تتركك في حالك، ومن ثمّ تتضح القيمة العظمى لمجرد مشاغلتها!
twitter.com/sariorabi