(إهداء)
لكل فلسطيني خارج أرض الأنبياء
لكل مصري في المنافي الاضطرارية
لكل إنسان أجبرته الظروف على ترك الديار
في مشهد افتتاحي حميمي ومبهج يرسم لنا المخرج كينيث براناه صورة لمجتمع
متجانس في حي عمالي بمدينة بلفاست عاصمة أيرلندا الشمالية، ويظهر على الشاشة تاريخ
15 أغسطس 1969، بما يمهد للمشاهد أن الفيلم يتضمن عرضا تاريخيا لمشكلة ما أو مرحلة
ما، لكننا بصرف النظر عن تصوير الفيلم بالأبيض والأسود لم نر تاريخاً بالمعنى
التقليدي، بل رأينا مشاهد حيوية تبعث على البهجة لأطفال يلعبون في تفاعل ورعاية من
الكبار، وتخرج إلى الشارع أم شابة (كاتريونا بالف) وتنادي على طفلها: بادي.. بادي..
الشاي، ويهتم الكبار بتنبيه الطفل لنداء أمه والعودة لتناول الشاي الخاص به، ويظهر
الصبي بادي (9 سنوات قام بدوره الطفل الأيرلندي جودي هيل) ممسكا بسيف خشبي لمحاربة
التنين ويحمل درعا عبارة عن غطاء أحد براميل القمامة المصفوفة في الشارع بنظام
وترتيب يدل على عناية السكان بالحي ونظافته، وقبل خطوات من البيت يتجمد الصبي بادي
في مكانه وتظهر على وجهه ملامح الدهشة والفزع، ونشاهد معه حشدا من المهاجمين يحملون
العصي ومشاعل النار وقنابل المولوتوف البدائية، ويحطمون أبواب ونوافذ البيوت
ويحرقونها، بينما يسأل الصبي في فزع: أمي.. ماذا يحدث؟
لا نسمع إجابة للأم، لكننا نفهم من صيحات المهاجمين التحذيرية أن الهجوم يستهدف
السكان الكاثوليك في الحي، ويحذر البروتستانت بطردهم وعدم التعامل معهم، وإلا
طالهم العقاب: اطردوهم وإلا سنحرقكم معهم..
تاريخ أغسطس 1969 إذن يخبرنا ببداية التحول في حياة "بادي"، الذي
يمثل طفولة الكاتب والمخرج نفسه في فيلم يمتلئ بالحنين ويقترب من السيرة الذاتية
المجتزأة في فترة قصيرة، لكنها نقطة تحول مؤثرة في حياة بادي وأسرته إلى الأبد.
تحاصر الشرطة الحي لتأمينه، في الوقت الذي يعود فيه الأب من عمله البعيد في
لندن (يقوم بدوره الممثل الأيرلندي جيمي دورنان) فيمنعه الجنود من دخول الحي، لكن
الأم الجسورة تتدخل وتنتزع زوجها وتعود به إلى البيت، لكن الأمان الذي كان يملأ
البيوت احترق بنيران مشاعل المتعصبين، وهو ما عبر عنه السؤال الذي سمعناه على شاشة
التليفزيون في أحد البرامج الإخبارية:
هل يمكن لهذه الأحياء المتماسكة العودة إلى السلام الذي كانوا يتشاركونه فقط
منذ 24 ساعة؟
تبدو السلطة غائبة إلا من جنود الكتيبة الثالثة وصوت الضيوف في التليفزيون
الذي يلعب دورا رئيسيا في رسم أجواء الستينيات في الفيلم الذي تميز بخلفية غنائية
وسينمائية ومسرحية رائعة وثرية تعيد الحياة لفترة الستينيات وساعد في ذلك قصات
الشعر القصيرة وموديلات الأزياء والرقصات وحضور الميكروجيب ومشاهد الأبيض والأسود.
ومع غياب السلطة تتصاعد التهديدات بين السكان وبعضهم وتظهر التحديات
والاستجابة الأهلية، ففي اليوم التالي يأتي أحد قادة المتطرفين ليهدد والد بادي ويطالبه
بطرد جيرانه الكاثوليك، فيقول له الأب بحزم: المس أحدا من أسرتي وسوف أقتلك،
ليستمر الصراع من دون أن يتخلى الفيلم عن مشاهد الحنين التي تصور الحياة في حي
العمال ومشاكله المعيشة والضرائب والديون التي يخفيها الأهل حرصا على براءة وسعادة
أطفالهم الذين يواصلون الشقاوة واللعب ومغامرات الصغار وسط جو من الترقب للمخاطر
التي أرقت حياتهم، وتتصاعد بين فترة وأخرى، لكن وجود الجد والجدة (كيران هايندز وجودي
دنش) يضفي جوا من الأمان على الأولاد ويساعد في تخفيف حدة الخوف والتوتر الناجم عن
التهديدات والهجمات المفاجئة، وطرح الأسئلة عن سبب الخلاف والفروق الدينية بين
البروتستانت والكاثوليك، لكن الفيلم ظل محافظا على براءة السرد من خلال عيون بادي
من غير أن يتعمق في جذور الصراع واتساعه خارج الحي أو ارتباطه بالسياسة، خاصة وأن
الصراع تاريخيا يعود إلى القرن السابع عشر، عندما انتزعت السلطة الملكية الإنجليزية
أراضي الأيرلنديين الكاثوليك في مناطق مثل أولستر ومنحتها لمستوطنين بروستانت من
الإنجليز والاسكتلنديين، وقد اتخذ هذا الاستيطان شكلا للصراع المذهبي غطى على
القضية الأصلية المتعلقة بانتزاع الأرض وزرع بذور الفتنة، ما أدى إلى صراع دموي انتهى
بتقسيم أيرلندا إلى شمالية ذات أغلبية بروتستانتية، وجنوبية ذات أغلبية كاثوليكية،
تمكنت من انتزاع استقلالها عن بريطانيا عام 1922 في ظل نزاع قومي يتخذ مظهرا
مذهبياً واختلافا في العقيدة الدينية، وقد عبر الفيلم عن ذلك في عبارة بسيطة عندما
قال قائد المتعصبين لوالد بادي البروتستانتي لا تدعم الكاثوليك وإلا نالك العقاب
مثلهم.
فيرد عليه الأب: وهل أنت بروتستانتي حقيقي أو لك علاقة بالدين؟.. أنت مجرد
رجل عصابات تفرض سطوتك على المسالمين، في إشارة لحقيقة الصراع السياسي القومي الذي
تخفى وراء الغطاء المذهبي الذي عاد للظهور في صيف 1969 كما جاء في افتتاح الفيلم،
واستمر لأكثر من 30 عاما حتى اتفاق الجمعة العظيم في عام 1998.
مع تصاعد المشاكل والتهديدات وديون الضرائب يقرر الأب الهجرة إلى أستراليا
أو كندا، لكن الأم ترفض وتتمسك ببقائها في الحي الذي ولدت وأحبت وتزوجت وأنجبت
فيه، وهو واحد من المشاهد الجميلة المؤثرة والمتكررة في الفيلم، ولهذا حرصت على
الاستشهاد بمقاطع من الحوارات فيها:
يقول الزوج: حان وقت التفكير في بداية جديدة
الزوجة: أنا لا أعرف شيئاً سوى بلفاست
الزوج: ثمة عالم بأكمله هناك، هناك دول كومونويلث بحاجة إلى تجّار، والحكومة
ستساعدك على العبور، بوسعنا منح الولدين فرصة أفضل في الجانب الآخر من العالم
الزوجة: لا أستطيع أن أهجر البيت والعائلة والمكان الذي يلعب فيه الأولاد
بأمان
الزوج: نحن نعيش وسط حرب أهلية، وأنا لست موجوداً لأحمي عائلتي، ويمكن
اصطحاب العائلة كلها أو يأتون لزيارتنا كل فترة
الزوجة: يجب أن أبقى.. يجب أن أبقى..
وعندما تصل المسألة إلى الجد والجدة، تقول الجدة: كيف يمكنني مغادرة
بلفاست؟ يجيب الجد الحكيم وهو عامل سابق في منجم إنجليزي تضررت رئته ويفتقد للرعاية
الصحية: الأيرلنديون وُلدوا ليغادروا.
ثم يضيف ضاحكاً: وإلا لن تكون هناك حانات في بقية العالم.. نصفنا فقط بحاجة
للبقاء، حتى يصبح النصف الآخر عاطفياً بشأن الذين ذهبوا، كل ما يحتاجه الأيرلندي
للنجاة: هاتف وموسوعة جينيس وموسيقى داني بوي.
وعندما تندهش الجدة من موافقة زوجها على رحيل الابن والعائلة يقول له
بفلسفته الحياتية العميقة: المعاناة الطويلة تهب الناس قلوباً من الحجر.
تسأله الجدة: هل هذه حكمة؟
يقول بتأثر: حسناً، عادةً لا تشترين حِكمتك بنزهة في الحديقة، لا بد أن
ينفطر قلبك
الجدة: ومتى انفطر قلبك يا سيد فيلسوف؟
يجيب ضاحكاً: في ذلك اليوم الذي رأيتك فيه لأول مرة وأنت ترتدين الجوارب
البُنية!
ويتحول الموقف إلى استدعاء للذكريات الجميلة والحنين المقيم في النفوس
المتعبة.
في إجازته التالية يأتي الزوج ومعه خبر التخلي عن فكرة الهجرة واستبدالها
بالانتقال للعمل في لندن لأن الشركة ستنقله للإدارة وتمنحه زيادة في الراتب ومنزلا
بحديقة صغيرة تصلح للعب الأولاد.
تشعر الزوجة بالانقباض وتسأله: وماذا تريد أنت؟
يقول: أريدك.. أريد عائلتي معي.
ترد الزوجة: كلانا يعرف الآخر منذ الطفولة، تعرفنا في هذا الشارع، ونعرف كل
الشوارع المحيطة وكل السكان هنا، والأولاد يتحركون بكل حرية تحت رعايتنا ورعاية
جيراننا على السواء فالكل يعرفهم، وأنت تقول إنّ لديك حديقة صغيرة للطفلين؟ إن
عبرنا النهر لن يفهم الناس كلمة مما نقول، ونصفهم لن يأبهوا لنا لأننا نبدو مختلفين، بينما النصف الآخر سيكرهنا لأنّ الرجال هنا يقتلون أطفالهم
في شوارعنا.
ينقل بادي الحوار لجده: أمي تقول إننا لو عبرنا النهر لن يفهموا كلمة مما
نقول فيقول له الجد: أنا متزوج من جدتك منذ 50 عاماً ولم أفهم يوماً كلمةً مما
تقول، لما كنت أعمل هناك قالوا عني الشيء نفسه، فكنت كل يوم أتكلم بلهجة مختلفة لأحيرهم
فلم يعلموا قط من أنا، لكنني تعلمت شيئا مهما، وهذا هو الشيء الوحيد الذي عليك
معرفته: أنت تعلم من أنت، أليس كذلك؟.. أنت بادي من بلفاست، كلنا نعرفك هكذا ونحبك
هكذا، وحيثما ذهبت وأيّاً كان ما أصبحت، ستظل بادي من بلفاست.. هذه الحقيقة ستبقيك
دائما بأمان.
يموت الجد في المستشفى ويتصاعد العنف لدرجة هددت حياة بادي وعائلته، وتوافق
الزوجة والعائلة على الرحيل الاضطراري، بينما تتمسك الجدة بالبقاء، ربما لتطبيق
وصية الجد بأن أحدا لا بد أن يبقى لينفطر قلبه ويزرع زور العاطفة في البيت انتظارا للغائبين الذين سيعودون يوما، كما قال الصبي في زيارة الوداع لزميلة دراسته التي
يحبها ويخطط للزواج منها إذا انتهت فتنة الصراع بين المذهبين، لأنها كاثوليكية وهو
بروتستانتي.
وينتهي الفيلم بإهداء ثلاثي معكوس ورد في النهاية ليوحي للمشاهد بأنها
بداية، كما لو أن كل النهايات تتضمن بدايات أيضا ويقول الإهداء:
لمن بقى، لمن رحل، ولكل من فُقِدوا
كأنها لوحة تعبيرية لأشعار محمود درويش عن الرحيل و"قدر المطارات" حيث الأم الباقية كأرض الوطن والابن الراحل متمسكا بالعودة والنظر المتلهف عكس المسار الإجباري
بطاقة الفيلم:
بلفاست
تأليف وإخراج: كينيث براناه
الممثلون الرئيسيون: جودي هيل، جيمي دورنان، كاترينا بالف، جودي دنش، كيران
هايندز
نال 40 جائزة ومرشح لـ7 جوائز أوسكار و203 جوائز أخرى.