باتت محاولة قراءة مسار الأحداث وأهداف الأحلاف المتقابلة في أوكرانيا أكثر واقعيةً، وذلك بعد مرور عدة أيامٍ على بدء العملية العسكرية الخاصة الروسية في أوكرانيا، وعلى ضوء الأفعال وردود الفعل المضادة، وتصريحات الفرقاء وباقي الأطراف الدولية، فصار جلياً أن الحرب رغم كونها محصورةً في الجغرافيا الأوكرانية، إلا أنها في حقيقة الأمر تدور بين حلفين متقابلين؛ حلف روسي وآخر أمريكيّ، في مشهدٍ اكتملت فيه معظم عناصر الحرب العالمية، وما عاد ينقصه سوى امتداد شرارة الحرب المشتعلة حالياً إلى خارج الجغرافيا الأوكرانية لا قدر الله، لتتحول إلى حربٍ عالميةٍ ثالثةٍ ساخنةٍ مكتملة الأركان.
فبناءً على تصريحات الكرملين المتعاقبة، وبناءً على ما جاء في تصريحات وزارة الخارجية الروسية خلال هذه الأيام، نفهم أن
روسيا قد اتخذت القرار للتدخل العسكري المباشر في أوكرانيا، عقب معطياتٍ توفرت لديها عن نشاطٍ أمريكيٍّ عسكريٍّ متزايدٍ في الساحة الأوكرانية، نشاطاتٍ تتعلق بتفعيل المنشآت النووية الأوكرانية، التي ما زالت أوكرانيا تملكها منذ حقبة الاتحاد السوفييتي، ونشاطاتٍ أخرى تتعلق بإنشاء معامل سلاحٍ بيولوجيٍّ وكيماويٍّ، ذلك بالإضافة إلى قناعةٍ تشكلت لدى روسيا، مفادها أن الغرب لم يتخلّ يوماً عن "سياسة احتواء روسيا"، التي اتبعها ضد الاتحاد السوفييتي، وذلك عبر استمرار زحف حلف شمال الأطلسي شرقاً، على عكس ما كان قد وعد به الغرب الاتحاد السوفييتي قبل نحو ثلاثة عقود. لذلك جاء في طليعة أهداف العملية العسكرية الروسية، انتزاع التزامٍ من أوكرانيا بعدم الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، ونزع السلاح الأوكراني، الذي هو في الحقيقة سلاحٌ أطلسيٌّ، ويُشكِّل خطراً على الأمن القومي الروسي.
قناعةٍ تشكلت لدى روسيا، مفادها أن الغرب لم يتخلّ يوماً عن "سياسة احتواء روسيا"، التي اتبعها ضد الاتحاد السوفييتي، وذلك عبر استمرار زحف حلف شمال الأطلسي شرقاً، على عكس ما كان قد وعد به الغرب الاتحاد السوفييتي قبل نحو ثلاثة عقود
لكن كان من بين ما قالته وزارة الخارجية الروسية أيضاً، أنه قد آن الأوان لإزالة الأسلحة النووية الأمريكية، التي ما انفكت هذه الأخيرة عن نشرها في القارة الأوروبية، وعلى مقربةٍ من الحدود الروسية. وفي هذا إشارةٌ واضحةٌ إلى أن الأهداف الروسية تتخطى الهدف المباشر لعمليتها العسكرية، الذي يتمثل في إزالة تهديد نشوء "روسيا مضادةٍ" على الحدود الروسية في أوكرانيا، ليظهر أن الأهداف الروسية بعيدة الأمد تشمل محاولة معالجة الواقع الأمني الذي استحدثه حلف شمال الأطلسي في أوروبا خلال العقود الثلاث الماضية، والذي يمثل تهديداً جدياً لأمن روسيا الاتحادية القومي واستقرارها.
ولا يمكن قراءة الخطوة العسكرية الروسية في أوكرانيا بمعزلٍ عن نتائج القمة الصينية الروسية الأخيرة وبيانها الختامي، الذي جاء فيه تصورٌ صينيٌّ روسيٌّ مشتركٌ لشكل النظام العالميّ الجديد، والذي رافقه توقيع صفقاتٍ صينيةٍ روسيةٍ استراتيجيةٍ في مجالات الطاقة والفضاء وغيرهما، مما انعكس على روسيا مزيداً من القوة في مواجهة الغرب، وزاد من اختلال موازين القوى لصالح روسيا وتبعاً الصين، كونهما قد دخلتا في ما يشبه الشراكة في مواجهة الهيمنة الأمريكية الغربية على العالم، وبالتالي يجعل هذا المعطى من الصين شريكاً غير مباشرٍ في الاشتباك الحاصل بين روسيا وأمريكا في أوكرانيا، ويجعل منها ظهيراً رئيساً لروسيا في معركتها ضد حلف شمال الأطلسي.
أما على المقلب الآخر، فكان لافتاً حجم وسرعة الإجراءات غير المسبوقة، التي اتخذتها الولايات المتحدة الأمريكية مع حليفها الاتحاد الأوروبي وحلفاء آخرين ضد روسيا. ففي غضون أيامٍ معدوداتٍ فقط، بلغت العقوبات الاقتصادية من طرفٍ واحدٍ، التي فرضها الغرب وحلفاؤه ضد روسيا، مدى يحاكي العقوبات الأمريكية على إيران، وبين ليلةٍ وضحاها قاموا برصد مبالغ طائلةٍ من أجل إمداد أوكرانيا بالسلاح.
يمكن الاستخلاص من مجموع هذه التصريحات، التي صدرت عن كلا الطرفين، أنهما يريان في الحرب الأوكرانية معركةً أولى ضمن اشتباكٍ أوسع مدى، وأطول زمناً، حول مستقبل ونفوذ حلف شمال الأطلسي في أوروبا، وبالتالي حول النفوذ الأمريكي وهيمنته العالمية، وتباعاً حول شكل وطبيعة النظام العالمي ما بعد الأحادية القطبية
وكان من جملة ما قاله الرئيس الأمريكي بخصوص الحرب الأوكرانية أنهم كانوا قد حضّروا لهذه العقوبات الاقتصادية على روسيا منذ أشهرٍ، وبأن بوتين ربما يكون قادراً على تحقيق إنجازٍ عسكريٍ في أوكرانيا، لكن العقوبات الاقتصادية التي فرضوها على روسيا ستؤدي إلى شلّ الاقتصاد الروسي على المدى المتوسط. وفي هذا الكلام إشارةٌ إلى أن الأمريكي كان يعد العدة لشن حربٍ اقتصاديةٍ ممتدةٍ على روسيا، على غرار الحرب التي يخوضها ضد إيران وكوريا الشمالية، وفيه أيضاً إشارةٌ إلى كون أمريكا تتعامل مع سقوط أوكرانيا على أنه احتمالٌ مرجحٌ، فما معنى قول بايدن بأن بوتين ربما يكون قادراً على تحقيق إنجازٍ عسكريٍ في أوكرانيا؟
ويمكن الاستخلاص من مجموع هذه التصريحات، التي صدرت عن كلا الطرفين، أنهما يريان في الحرب الأوكرانية معركةً أولى ضمن اشتباكٍ أوسع مدى، وأطول زمناً، حول مستقبل ونفوذ حلف شمال الأطلسي في أوروبا، وبالتالي حول النفوذ الأمريكي وهيمنته العالمية، وتباعاً حول شكل وطبيعة النظام العالمي ما بعد الأحادية القطبية.
يبدو أن الغرب يدرك في العمق معنى الاشتباك الذي بدأ من أوكرانيا، ومدى عمق التحولات التي يمكن أن يشهدها العالم بناءً على نتائج هذه المواجهة التي ستكون طويلة نسبياً. فلعلّ هذا ما يفسر تكتل كل المنظومة الغربية في الحرب الدائرة اليوم
لكنه من الممكن أيضاً النظر إلى الاشتباك الذي بدأ من أوكرانيا، على أنه اشتباكٌ بين الشرق الصاعد، وبين المنظومة الغربية التي بدأت بالأفول في كُلِّيَتها. فعلى عكس الحرب الباردة إبان حقبة الاتحاد السوفييتي، نجد اليوم الصين وروسيا تتوضعان في جبهةٍ واحدةٍ، بالإضافة إلى وجود لاعبٍ إقليميٍ رئيس في المعادلة، يتمثل في إيران وحركات المقاومة العربية والإسلامية، هذا المحور الذي أنهك بحقٍ الولايات المتحدة الأمريكية في منطقتيّ المشرق العربي ووسط آسيا، وأفشل مشاريعها على طوال العقود الثلاثة الماضية منذ احتلال العراق.
ويبدو أن الغرب يدرك في العمق معنى الاشتباك الذي بدأ من أوكرانيا، ومدى عمق التحولات التي يمكن أن يشهدها العالم بناءً على نتائج هذه المواجهة التي ستكون طويلة نسبياً. فلعلّ هذا ما يفسر تكتل كل المنظومة الغربية في الحرب الدائرة اليوم، حتى أننا وجدنا دولاً كفنلندا والسويد وحتى سويسرا، تنضم للمعركة الدائرة، على عكس ما كانت عليه في حقبة الحرب الباردة، هذا ناهيك عن ردة الفعل الغربية الهستيرية في مواجهة روسيا، التي لم توفر حتى القطط والشجر وكُتُب الأدب الروسي!
فهل دار الزمان دورته؟ وهل بدأ بالفعل انتقال مركز القوة من الغرب إلى الشرق كما كان عليه الحال حتى القرن السادس عشر؟
كثيرةٌ هي المعطيات التي تشير إلى هذا بالفعل.