انتصار الأسير هشام أبو هواش بأمعائه الخاوية وإرادته الصلبة على السجان
الإسرائيلي؛ يفتح مجدداً أسئلة صعبة ومعقدة في تعاطي الاحتلال مع الأسرى بقوانين عنصرية ظالمة تجسد مبدأ كسر مقاومة الشعب
الفلسطيني. نضال وكفاح الحركة الأسيرة الفلسطينية عبر تاريخ طويل؛ يشهد حالة اشتباك دائم مع السجان الصهيوني، وفيها كثير من محطات الانتصار و"الإعجاب" الملفت لما يبديه الأسرى من مواجهة بأدوات بسيطة وأجساد عارية؛ لم تلق في عقودها الأخيرة سياسة فلسطينية وعربية تضغط على الاحتلال لتوفير مساندة لهم بالمعنى الحقيقي.
وتلك من المسائل المؤلمة والمخزية في آن واحد، وتتعلق بوضع الأسرى والمعتقلين في
سجون الاحتلال الصهيوني، وجولات المعارك التي خاضها الأسرى المضربون ضد ظروف اعتقالهم وضد قوانين الاحتلال الجائرة وقانون الاعتقال الإداري والأمني، وبتنفيذ الاعتصامات التي تجري داخل مراكز الاعتقال والزنازين لمواجهة محاولات كسر إرادتهم.
تكشف الأحوال المأساوية الصعبة لأبطال الحرية عن عزيمة أولئك المتشبثين في آمال حريتهم واستمرار حياتهم.. صورهم المسربة من مشافي الاعتقال أو الزنازين، ونطفهم المهربة لأرحام الزوجات، وقصصهم التي تروي عشق الحرية والبلاد، تبقى خالدة في سجل النضال الطويل الذي يخوضه الشعب الفلسطيني وحركته الأسيرة في طريق التحرر من الاحتلال.
هزيمة المعتقل
وبعيداً عن العاطفة النبيلة والتعاطف الإنساني مع قضيتهم يقفز السؤال المهم برأيي: لماذا ينجح الأسير الفلسطيني في تسجيل بعض من نقاط الانتصار على السجان في معتقله عند العدو، وذات المعتقل ينتمي لنفس الأرض والقضية، ويتقاسم مع شقيقه كل الأحلام والآمال في معتقلات عربية وأشهرها على الإطلاق "فرع فلسطين" في
سوريا، حيث تُسجل هزيمة مدوية للمعتقل الفلسطيني هناك؟
يَفتقد المعتقل في فرع فلسطين لكل معاركه، تُهزم إرادته منذ اللحظة الأولى لخبر اعتقاله، لا محكمة ولا قانون، لا خبر ولا صورة عنه ومنه، لا نطف مهربة، ولا شارة نصرٍ في وجه السجان، ولا أبيات شعرٍ في حب الوطن والحياة تتحدى المحتل والسجان، لا مجتمع وبيئة مقاومة تسانده وتضغط على السجان للإفراج عنه، لا قضية له.. غائب في العدم، مصيره متروك للجلاد يفعل بجسده ما يشاء، يمزقه أو يقطعه أو يحرقه أو يدفنه، لا شيء سوى الحسرات تتحدث عنه خارج معتقله، والهمسات الخجولة للسؤال عن مصيره.
والحديث عن أقبية فرع فلسطين ليس للمفاضلة مع الأقبية الصهيونية ومحاكمها، فالاحتلال مغتصب للأرض والتاريخ ومجرم وقاتل، وكل قوانينه ومحاكمه أنشئت لتسويق أكاذيبه وأساطيره لتغطية أكبر جريمة تعرض لها الشعب الفلسطيني منذ بداية القرن الماضي. وما يجعل التسويق ينجح في بروباغندا الاحتلال لهذه المحاكم والاعتقالات؛ هو ما يتحقق في أقبية وزنازين المعتقلات العربية لتضخيم فكرة "الدولة الديمقراطية" الوحيدة في محيط مضطرب غارق بالظلم والاستبداد، دون الرجوع لمنبع الكارثة في نكبة شعب فلسطين وسرقة الأرض والتاريخ.
بإمكان الأسير في معتقلات العدو التقاط صورة مع أحبته وفلذات كبده مرة في العام، أو الحصول على قبول جامعي للاستمرار في التعلم، أو مشاهدة قنوات تلفزيونية والحصول على رعاية طبية، وبإمكان المحتل الحديث عن كل هذه الإجراءات "الإنسانية القانونية" على أنها من صلب ما توفره القوانين المعمول بها، لكنها ركن أساسي في التغطية على جريمة وجود الاحتلال نفسه، وفبركته لكل هذه المؤسسة وإدارتها على هذا النحو القاهر للاستمرار في تسويق كذبة محاربة "إرهاب" أصحاب الأرض والهوية، وكسر شوكة مقاومتهم لهذا الاحتلال.
فرع فلسطين التابوه المقدس
لكن ما المبررات التي يسوقها خفير "فرع فلسطين"، لانتزاع حياة المعتقل الفلسطيني في زنازينه وأقبيته؟ الصمت والإنكار المستمر للضحايا والجرائم يحضران بقوة في ملفات الأقبية المحظور على الفلسطيني؛ مسؤولاً كان في سلطته أو فصائله الاقتراب منها. أصبح فرع فلسطين وضحيته الفلسطيني "تابوه" مقدس ممنوع على الإطلاق الهمس في السر والعلن نقاش مصير الضحايا بالمطلق، مهما بلغ حجم الجرائم والمعاناة التي يتعرض لها ذوو الضحايا بهذا الشأن، وهي بلغت حد الازدراء والاستعلاء من ذوي أصحاب السلطة والأمن في السلطة والفصائل الفلسطينية المختلفة؛ التي ظهرت على حالة من المحاباة والنفاق غير المسبوق لحارس فرع فلسطين في دمشق، بشار
الأسد، الذي تهرول إليه رموز السلطة وفصائلها. والمواضيع التي تبحثها والرسائل التي يحملها الجميع خالية من البحث عن مصير آلاف المعقلين والمفقودين أو السؤال عن جثث من قطعتهم عصابات فرع فلسطين.
وهذا بالضبط ما يمنح المحتل تسويق "نفاق التفوق الأخلاقي" الذي يجهر به في كل مناسبة عن "ديمقراطيته الوحيدة" المزيفة، لا عن جريمته في نكبة شعب استمرت وتطورت بفضل المحيط القادر على هزيمة المعتقل والأسير الفلسطيني في زنازينه، وبالتالي هزيمة قضيته، لا في الحرية فقط، بل في إزهاق روحه العالية وقتلها وتقطيع أوصالها حرفياً، كما أظهرت فظاعات التابوه المقدس للفرع الفلسطيني، وهناك أطنان من الأدلة والشهادات للجرائم بتوثيق ضخم.
في كل الأحوال، ليس من شأن زوار الأسد في دمشق من البيت الفلسطيني، وآخرهم عضو مركزية فتح جبريل الرجوب، الاقتراب من فرع فلسطين الأسدي أو من أي زنزانة للسؤال عن مصير فتيات ونساء ورجال أبناء فلسطين. فالرسائل المنقولة منذ عشرة أعوام لدمشق من البيت الفلسطيني وموفديه تشي باستمرار دفن الجثث دون معرفة مكانها من أهلها، وتسريب أسماء من يقضي تحت التعذيب جار على قدم وساق. لم تبق أمعاء ولا أعضاء للصمود في وجه السجان، والأعضاء الحاضرة لاحتفالية انطلاقة الثورة في مخيم اليرموك المدمر من السجان نفسه، والأيدي الرافعة لرايات الفصائل والمصفقة للأسير المنتصر في زنزانة العدو فقط؛ هي المصفقة لهزيمة الفلسطيني في فرعه بتحية الجلاد بإجلال "وطني".
في النهاية، الحالة الفلسطينية المأساوية ليست بحاجة لانتصار أسير مضرب عن الطعام مثل هشام أبو هواش، للهروب من واقع مأساوي يئن خلفه المعتقل الفلسطيني في زنزانة عربية؛ لم يتسن له الإضراب عن الطعام لأن قتله تحت التعذيب والتنكيل بجثته لم يوفرا له قضية ينتصر لها. شجاعة مؤازرة المعتقلين والمطالبة الفورية بالإفراج عنهم والكف عن سياسة القتل تحت التعذيب وحرمان ذويهم من دفنهم ومعرفة مصيرهم؛ تتطلب برنامج عمل شجاع، وهو مفقود لصالح سياسة منهزمة أمام القضايا الواجب حمايتها لا تمييعها وتبديدها كما هو حاصل.
twitter.com/nizar_sahli