هو انقلاب وإن بدا عبد الفتاح
البرهان، بالإجراءات الأولية، يتحسس موضع قدميه، ليعرف من معه ومن عليه!
فكل شيء مختلف في
السودان، ولا تمكن مقارنته بكل ما هو من جنسه، وذلك منذ إعلان القادة العسكريين عزل الرئيس عمر البشير. وظل الإعلان عن بيان عسكري متصدراً شاشة التلفزيون السوداني لبضع ساعات، في انتظار إعلانه، فبدا إجراء غريب الأطوار، ذلك بأن هذا النوع من البيانات يعلن في الحال خوفاً من ردة فعل الحاكم، لكن ربما كان القوم في غاية الاطمئنان، وقد أجمع من يمثلون مصادر القوة في حكم البشير على خيانته، يستوي في ذلك العسكريون النظاميون مع المليشيات التي صنعها على عينه، ووصف قائدها بأنه "حمايته"!
وإذا كانت هذه الخيانة لها ما يبررها من حيث كون القوم قد دفعوا إليها بقوة الثورة السودانية على نظام الرئيس البشير، فقد كان أمامهم أن يلتزموا بالوفاء الشكلي، كما فعل العسكريون في الجارة مصر، وأن يكون بيان التنحي للرئيس، ولا يبدو أنه انقلاب رجاله عليه، لكن السودان يتحفنا بكل جديد!
وكان الجديد كذلك، هو قبول قيادة الجيش السوداني بوجود شريك في الحكم من المدنيين، لأنه لم يكن متاحاً القيام بانقلاب كامل. وفي الجارة مصر، فان مبارك هو من تنازل عن سلطانه للمجلس العسكري، لكن هذا لم يكن متاحاً في السودان، وإذ تم اختطاف الثورة، من خلال اليسار السوداني بمكوناته المختلفة، فقد كان الأمر "تبادل منافع"، بين اتجاهين يدركان حقاً أن هذه هي الطريقة المثلى لاستيلائهم على الحكم، على غير إرادة الشعب السوداني عبر صناديق الانتخاب!
ولم تكن هذه الشراكة وحدها هي الجديدة وغير المعهودة في المنطقة، فالجديد أيضاً أن المكون اليساري الذي اختزل الثورة فيه، بدا متهيباً الاحتكام للشعب؛ تهيّب العسكريين من ذلك، وعندما قال العسكريون إن سقف الفترة الانتقالية هو سنة واحدة لكي يطمئن فؤاد الثوار، ارتج على المكون المدني وطالب بعامين، قبل أن يطلب أربع سنوات، فكان له ما أراد!
إن الأصل في الثورات أنها تقوم لسبب مهم؛ هو انسداد الأفق للتغيير السلمي عبر الآليات الديمقراطية، لكن المكون المدني اليساري، الذي احتكر التعبير عن الثورة، كان في وجل من فكرة الانتخابات، على نحو مضحك، إذ كان هذا اعترافاً منهم بأنهم لا يملكون الأغلبية، ولا يحوزون ثقة الشعب السوداني للفوز في انتخابات نزيهة، الأمر الذي يعد غاية المراد من ثورات العباد!
الانقلاب بالتدريج:
وظهر للعيان أن ما يجمع المكونين العسكري والمدني؛ هو هذا الخوف من الاحتكام للشعب، ولأن العسكريين لم يكن بإمكانهم في هذه الفترة القيام بانقلاب كامل الأوصاف، فكانوا يتلمسون موضع الأقدام، لا سيما أن أي محاولة انقلابية كانت ستؤدي إلى انشقاق كامل بين طرفين يملكان القوة ويطمعان في أن يرثا البشير. إذ كانت قوات الدعم السريع هي من ستقف في وجه الجيش النظامي، فضلاً عن عدم تسليم الثوار السودانيين بهذا الانقلاب. ويدرك العسكريون تماماً أن القوى الغربية لن توافق على ذلك، والوضع مختلف في مصر، فقد كان ما جرى في البداية انحيازا من الجيش للشعب الذي خرج ضد الرئيس المنتخب، ثم وقع الانقلاب بالتدريج، إلى أن تحقق كاملاً باستيلاء عبد الفتاح السيسي على الحكم!
ونتذكر هنا أننا ظللنا فترة طويلة في مصر نقول إن ما جرى انقلاب عسكري، ولم يكن الحضور الجماهيري سوى مجرد "غلاف جوي" له، وكان المنحازون لهذا الانقلاب يدافعون عنه بأنه ثورة، حتى تحققت أركان الانقلاب كاملة كما قرروها هم.
ومن الواضح أن عسكر السودان استفادوا من فكرة الانقلاب بالتدريج، فانتظروا الفرصة حتى يتمكن عبد الفتاح البرهان من أدواته، ومع ذلك استغرقته فكرة التدريج، فاختفى (إلى الآن) في وقت كان من المفروض فيه أن يلقي بيان الانقلاب، وبدأت الإجراءات باعتقال رئيس مجلس الوزراء ومستشاره، وعدد من الوزراء، مع انتشار الجيش في الشوارع، خطوة لها ما بعدها!
خلال العامين الماضيين دعم الجنرال السوداني موقفه، وحصل على تأييد جاره الجنرال المصري، وكان أمره من الأمور القليلة التي يحدث فيها تباين في الموقفين المصري والإماراتي، فالأخيرة تريد حميدتي، بينما لا يعترف السيسي بالعسكريين "الوافدين" على العسكرية من جماعات الدعم السريع، وإن ارتدوا الميري!
وسيطرت على المكون المدني المراهقةُ السياسية، التي جعلته في قطيعة مع هوية شعب السودان، وبمكايدة الإسلاميين، وكأن أزمة السودانيين في فتح البارات، وليس في حل الأزمة الاقتصادية الطاحنة. ثم اندفع في اتجاه مصادرة الأموال، وسجن الخصوم السياسيين، وإزاحتهم من أشغالهم، كما لو كان هدف الثورة هو استبدال استبداد باستبداد، وليس إقامة حياة سياسية سليمة. ولتكن مهمة لجان إزالة التمكين عزل القيادات في مرافق الدولة والجامعات، التي عُينت في عهد البشير وعلى مدى ثلاثين عاماً لتمكين مؤيديه من هذه المؤسسات، بدلاً من وضع قواعد موضوعية للتعيين في الوظائف العليا والمهمة، ووضع القواعد للتعيين والترقي بشكل عام، وإزالة الغبن عمن استبعدوا من الوظائف مع جدارتهم المهنية، لأسباب سياسية، إن وجدوا!
كانت المراهقة الفكرية تزيد الهوة بين المكون المدني وأغلبية الشعب السوداني، وليس كل "الكيزان" كانوا من أنصار عمر البشير، وليسوا جميعهم ممن استفادوا من حكمه، لكن الخصومة السياسية جعلت القوم يجعلون هدفهم إقصاء الجميع، فيشعر الجميع بالخطر من استمرار الوضع القائم!
إن الحديث عن جاهزية المكون المدني للفوز بأغلبية أي انتخابات بعد عامين، لا يدعمه الواقع، فاليوم الذي يمر على القوم في الحكم، يزدادون فيه بُعداً عن تحقيق الهدف الأسمى بالفوز بإرادة الناس، حتى وإن أقصوا "الكيزان" من كل مناحي الحياة، وحاصروهم حتى يضطروا لأكل أوراق الشجر!
وكان العسكر يتحدون الملل، بمشاهدتهم هذه الخصومة، وبشكل جعل الأغلبية تشعر أنهم من يمثلون الأمان لهم في مواجهة هذا الجنون؛ الذي يمثله المكون المدني منطلقاً من قواعد الخصومة السياسية!
زواج المتعة:
منذ البداية تمسك المكون المدني بالعسكر، وصدرت التصريحات تؤكد أنهم يتمسكون بوجودهم شركاء في الحكم، لكن العسكر كانت لهم أطماعهم، وإذا لم يستطيعوا تحقيقها الآن فليتحينوا الفرصة. وخلال الأسابيع الأخيرة بدا "زواج المتعة"، الذي هو محدد المدة بطبيعته، وقد وصل إلى نهايته. وقد طرق العسكريون الباب الإسرائيلي، ربما بناء على نصيحة من قبل الجنرال المصري، والذي يمثل قوة للبرهان؛ الذي قدم له التحية العسكرية عندما التقاه، وكأنه قائده الأعلى، في إشارة لا تخطئ العين دلالتها!
وفي المقابل، فإن المكون المدني يدرك أن معه من يمثل المجتمع الغربي رئيساً للحكومة، ثم بدأ يتودد للإقليم منذ البداية، ولعناصر الثورة المضادة من القاهرة إلى الإمارات. وإذ بدا هذا الإقليم متقبلاً للقوم، فقد كان هذا في البداية، لكنه لا يمكن أن يقبل البديل المدني منقلباً أو منتخباً إلا للضرورة.
وإذ وصلت التجربة للنهاية، فقد حشد كل طرف أوراقه لحسم الصراع، واستقوت القوى المدنية بالعالم الغربي، الذي بدا ميالاً لاستمرار الفترة الانتقالية لنهايتها، مع أن الحل الطبيعي للمشكلة هو إجراء انتخابات نزيهة بإشراف دولي، لكن يبدو أن المجتمع الدولي - أيضاً - ليس مع فكرة الحكم بإرادة الشعب السوداني!
لقد حشد المكون المدني أنصاره في الشارع لإزاحة المكون العسكري من الحكم، أو للتفاوض معه من منطق القوة، وكان الرد بحشد المكون العسكري للأنصار.. شارع في مواجهة شارع!
ثم كان القرار بأن السيف أصدقاء إنباء من الكتب، ووصل الأمر إلى اعتقال رئيس الحكومة السودانية، أو تحديد إقامته، بيد أن القصة لم تتم فصولاً.
يدرك عبد الفتاح البرهان أن المساندة الغربية للمكون المدني لها حدود، فقد قام الغرب بحصار السودان، واستمر حكم البشير لربع قرن مع هذا الحصار. وأنا هنا عندما أتحدث عن البرهان، فإني أقصد كذلك مستشاريه ومن دفعوه لهذه الخطوة، في الإقليم.
لقد اختار الوقت المناسب لانقلابه، فهنا ارتفع في نظر محرضيه ليكون هو الرجل الأول بدون خوف من منافسة حميدتي، وفي المقابل فإن الرهان هنا على الشعب الموالي للمكون المدني. ومع حضور الجيش للشوارع، فلن تصل الأمور إلى المذابح كما جرى في مصر، لاختلاف الموقف الغربي، وضعف الحلفاء في الإقليم على عكس قوتهم في زمن الانقلاب المصري! وإن كان عسكر السودان وجهوا أكبر إهانة للغرب باعتقال رئيس الحكومة، ابن المؤسسات الدولية وموفدها للسودان!
لن يتراجع عبد الفتاح البرهان، فمن اتخذ هذه القرارات يدرك أن التراجع معناه نهايته، لذا فسوف يستمر للنهاية، وقد يستبدل مكونا مدنيا بمكون مدني، لكنه لن يتقبل منه غربياً.
والأمر كله يتوقف على حدود الفعل الغربي، فحتى لو عمت الفوضى في الشوارع فإنه لن يتراجع عبد الفتاح البرهان، لان الحاكم العسكري بطبيعته لن يشغله فوضى أو خراب أو نحو ذلك، لأنه لا يفكر سوى أن يكون في القمة، قمة الجبل أو قمة المستنقع!
لننتظر قادم الأيام!
twitter.com/selimazouz1