عقب الحرب العالمية الثانية، ظهرت المدرسة
الواقعية في تحليل
العلاقات الدولية. وأفكار الواقعيين لها جذور في التاريخ، لكن اعتادت الأدبيات أن تؤرخ لهانز مورغنثاو (1904-1980) باعتباره مؤسس المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية. وكان جون ميرشايمر (1947) أحد الواقعيين لكنه طوّر في النظرية الواقعية، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وقد وضع كتابه المهم "مأساة سياسة القوى العظمى"، شارحا مفهوم
القوة، وأسباب الصراع عليها، وكيف وأين تقدمت أو أخفقت الدول. ونطرح في مقالين متتاليين لتفسيراته حول أسباب الصراع على القوة، ولماذا يصف دارسو العلاقات الدولية المجتمع الدولي بأنه يتفاعل في بيئة فوضوية.
السؤال الرئيس عند ميرشايمر: "لماذا تسعى الدول وراء القوة؟". وهو يقيم التنافس على القوة على خمس فرضيات: تذهب الفرضية الأولى إلى أن النظام الدولي فوضوي، لكن ذلك لا يعني أنه مشوش أو يمزقه الاضطراب. فالمبدأ التنظيمي يقول إن النظام يتألف من دول مستقلة لا توجد سلطة مركزية أعلى منها، وغياب وجود سلطة عليا فوق الدول تحتكم إليها عند النزاع؛ يجعل القوي يتصرف وفقا لما تقتضيه مصلحته وبمقدار قوته.
وتدفع الفرضية الثانية بأن القوى العظمى تمتلك قدرا من القدرة العسكرية الهجومية تمكنها من إلحاق الأذى أو حتى تدمير بعضها البعض.
وتنص الفرضية الثالثة على أن الدول لا يمكنها أن تتيقن من نوايا الدول الأخرى. ولا يعني ذلك أن نوايا الدول عدائية بالضرورة، ولا سبيل لتجنب هذا النوع من عدم اليقين حول النوايا.
وتقول الفرضية الرابعة إن البقاء هو الهدف النهائي للقوى العظمى، وتحديدا أن الدول تسعى للحفاظ على سلامة أراضيها واستقلال نظامها السياسي الداخلي.
وتذهب الفرضية الخامسة إلى أن القوى العظمى فاعل عقلاني؛ فهي تدرك بيئتها الخارجية وتخطط استراتيجية للبقاء فيها. لكن هذه الفرضيات لا تقضي وحدها بأن تتصرف الدول بطريقة عدوانية نحو بعضها، وتعد الفرضية الوحيدة التي تتعامل مع دافع محدد مشترك بين كل الدول، أن هدف الدول الرئيسي هو البقاء.
ويعد اجتماع الفرضيات الخمس مولدا لدوافع قوية تجعل القوى العظمى تفكر بطريقة عدوانية إزاء بعضها البعض، وينتج عن ذلك ثلاثة أنماط عامة للسلوك: الخوف، والاعتماد على الذات، وتعظيم القوة.
يشرح ميرشايمر سلوك الدول العظمى وفقا للخوف من بعضها البعض، فلا مجال للثقة، ورغم تفاوت مستوى الخوف عبر الزمان والمكان، لكنه لا ينتفي أبدا. فالنتائج الممكنة للوقوع ضحية العدوان تسهم في تضخيم أهمية الخوف كقوة محركة في
السياسة الدولية، وهذا التنافس لا يشبه التنافس الاقتصادي، إذ قد يؤدي إلى
الحروب التي تعني القتل الجماعي في ساحات المعارك. كما أن الدول تهدف إلى ضمان بقائها، وفي ظل غيبة السلطة العليا التي تقوم بالنجدة الدولية.
لا تستطيع الدول أن تأمن لبعضها البعض، وتعتمد على ذاتها في بقائها، ورغم وجود تحالفات لكنها في النهاية عبارة عن زيجات مؤقتة، فقد تتبدل الأحلاف إلى عداوات. وقد حاربت الولايات المتحدة مع الصين والاتحاد السوفييتي ضد ألمانيا واليابان، لكنها تحالفت مع الأخيرتين ضد حلفاء الأمس خلال الحرب الباردة.
إذاً، تعيش الدول في عالم يقوم على الاعتماد على الذات، ولذلك تتصرف دائما وفق مصالحها الذاتية، ولا تضع مصالحها بعد مصالح أي طرف آخر، وذلك لأنها يجب أن تكون أنانية في عالم يقوم على الاعتماد على الذات. ونظرا لخوف الدول من بعضها البعض واعتماد كل دولة على ذاتها، فإن الطريقة المثلى لضمان بقائها تتمثل في تعظيم قوتها، وكلما قويت تراجعت احتمالية مهاجمتها من منافسيها، فالدول الضعيفة مثل المكسيك لا يمكنها أن تغامر بمهاجمة الولايات المتحدة الأقوى منها بكثير.
لذلك تعير الدول انتباها كبيرا لتوزيع القوة فيما بينها وتسعى قدر استطاعتها لتعظيم نصيبها من القوة العالمية، وتحديدا تبحث الدول عن فرص لتعديل توازن القوة بزيادة قوتها على حساب المنافسين المحتملين، وتستخدم في سبيل ذلك وسائل اقتصادية ودبلوماسية وعسكرية، وحتى حين تحقق الدولة ميزة عسكرية على منافسيها، فإنها لا تشعر بالأمان إلا حين تحقق الهيمنة، وذلك لسببين:
أولا: يصعب أن نقيّم مقدار القوة النسبية الذي يجب أن تملكه الدولة أكثر من منافسيها قبل أن تصبح آمنة، وذلك لأن القوة وحدها لا تقرر من يربح الحرب، فالاستراتيجيات الذكية يمكنها أحيانا أن تمكّن الدول الأضعف من هزيمة خصومها الأقوى منها.
ثانيا: تصبح مسألة تحديد مقدار القوة الكافي أشد تعقيدا حين تفكر القوى العظمى في توزيع القوة فيما بينها بعد عشرة أو عشرين عاما، حيث تختلف قدرات الدول مع الوقت. فمثلا لم يتوقع كثيرون في الغرب انهيار الاتحاد السوفييتي، بل كان كثير منهم يتوقعون في النصف الأول من الحرب الباردة أن ينتج الاقتصاد السوفييتي أكثر مما ينتج الاقتصاد الأمريكي؛ فتتحول موازين القوة ناحيته، لذا يصعب التنبؤ بما يحمله المستقبل للصين وروسيا وتوازن القوة فيما بعد، نظرا لصعوبة تحديد مقدار القوة الكافي لليوم وللغد، تدرك القوى العظمى أن الطريقة المثلى لضمان أمنها تتمثل في تحقيق الهيمنة الآن.
تعكس المعضلة الأمنية (التي تعد أحد أشهر المفاهيم في أدبيات العلاقة الدولية) المنطق الأساسي للواقعية الهجومية، ومؤدى تلك المعضلة أن الإجراءات التي تتخذها الدولة لزيادة أمنها تُنقص عادة من أمن الدول الأخرى، لذا من الصعب أن تزيد الدولة فرص بقائها بدون أن تهدد بقاء الدول الأخرى. فبحسب جون هيرز (John Herz) الذي أظهر مفهوم المعضلة الأمنية عام 1950 في مجلة السياسة الدولية، فالدول "تناضل لتحقيق الأمن من (..) الهجوم، ما يدفعها إلى تعظيم قوتها أكثر فأكثر لتفلت من تأثير قوة الآخرين. وهذا بدوره ينقص شعور الآخرين بالأمن ويضطرهم للاستعداد لأسوأ السيناريوهات. وينتج التنافس على القوة عن أنه لا يمكن لأية دولة أن تحقق الأمن الكامل في هذا العالم المكون من وحدات متنافسة، ومن هنا تبدأ الحلقة المفرغة من مراكمة الأمن والقوة".
يتضح من هذه المناقشة أن القول بأن الدول تسعى إلى تعظيم قوتها يكافئ القول بأنها تهتم بالقوة النسبية (relative power) وليس القوة المطلقة (absolute power) وهذا التمييز مهم؛ لأن الدول التي تعظم قوتها النسبية تهتم في المقام الأول بتوزيع القدرات المادية، وتحاول تحديدا أن تكتسب أكبر ميزة نسبية في القوة على منافسيها المحتملين. أما الدول التي تسعى إلى تعظيم قوتها المطلقة فتهتم بحجم الزيادات التي تحققها وحسب، بغض النظر عن الزيادات التي تحققها الدول الأخرى، فلا تسترشد هذه الدول بمنطق توازن القوة بقدر ما تهتم بحشد القوة، فتصبح القوة وفقا لهذا المنطق غاية في حد ذاتها وليست وسيلة للبقاء.
رغم مستوى القوة الفائق للقوى العظمى فإنها لا تستطيع أن تتصرف وفقا لنواياها الهجومية؛ لأن سلوك الدولة يتأثر بما تريده الدولة وكذلك قدرتها على بلوغ تلك الأهداف. فالموارد تحكم قدرات الدولة، ورغم امتلاك القوى العظمى مميزات ملحوظة على منافسيها، فإنها تكون أقل ميلا للتفكير في عمل هجومي ضد خصوم أقوياء، وأكثر اهتماما بالدفاع عن توازن القوة من التهديدات القائمة من خصومها الأقوى.
وقد عبّر ستالين عن ذلك في نهاية الحرب العالمية الثانية بقوله: "يفرض المرء نظامه إلى حيث تصل جيوشه، وليس أي شيء آخر". مؤدى ذلك أن القوى العظمى ليست كيانات معتدية عديمة العقل، ولا تسعى بتهور إلى زيادة قوتها إلى درجة تدخلها في حروب خاسرة أو تحقيق انتصارات باهظة الثمن، فهي تقيّم تكاليف ومخاطر الهجوم في مقابل الفوائد الممكنة.
لكن القوى العظمى قد تخطئ في الحساب من حين لآخر؛ لأنها تتخذ قرارات هامة بناء على معلومات ناقصة، وقد يقوم الخصوم بإعطاء فكرة خاطئة عن ضعفه أو قوته، أو أن يخفوا أهدافهم الحقيقية. أيضا لو انتفى التشويش أو المعلومات المضللة، تظل القوى العظمى غير متأكدة من أداء قوتها العسكرية وقوات خصمها على ساحة المعركة. فمثلا انتصرت الولايات المتحدة وحلفاؤها بسهولة على العراق عام 1991، مع أن معظم الخبراء كانوا يعتقدون أن الجيش العراقي سيكون خصما هائلا.
يذهب الواقعيون الدفاعيون إلى أن قيود النظام الدولي قوية إلى درجة تقلل كثيرا فرص نجاح الهجوم، ويؤكدون على أن: الدول المهددة تفرض التوازن على المعتدين وتسحقهم في النهاية، وهناك التوازن الدفاعي الهجومي الذي يميل عادة نحو الدفاع ما يجعل الغزو أمرا صعبا جدا.
وباعتبار ميرشايمر يصنّف نفسه من الواقعيين الهجوميين، فإنه يناقش مفهوم التوازن الدفاعي الهجومي بقول: "لا شك أن العوامل المتعلقة بالنظام تقيّد العدوان، خاصة فرض التوازن من قبل الدول المهدَّدة، لكن الواقعيين الدفاعيين يبالغون في تلك القوى المقيِّدة، ولا يقدم السجل التاريخي دعما كافيا لادعائهم بأن الهجوم لا ينجح إلا نادرا، فتقدّر إحدى الدراسات أن 63 حربا وقعت بين عامي 1815 و1980 ربح البادئ بالحرب 39 منها، أي بمعدل نجاح 60 في المئة، فالسجل التاريخي يوضح أن الهجوم ينجح أحيانا ويفشل في أحيان أخرى، وتكمن مهارة القوة المحنّكة التي تسعى إلى تعظيم قوتها في أن تفهم متى تتقدم ومتى تتوقف".
twitter.com/Sharifayman86