من أجل صوغ ذاتية المواطن الجديد الذي يتعرف إلى نفسه في الدولة، كان شكل الضبط -وفقاً لتعبير ميشال فوكو- الذي أنتجته الدولة الأوروبية في القرن السابع عشر مميزاً في تحقيق ذلك.
ارتبط نظام الضبط بصعود الملوك الذي استهدفوا تشديد قبضتهم على شعوبهم، في وقت إكتنازهم الثروة، ومن خلالهم انطلقت فتوحات استعمارية جلبت لبلادهم تلالاً من الذهب والفضة، أدت إلى زيادة المكاسب وتراكم رأس المال، ونتاجاً طبيعياً لتلك التطورات، شهدت المجتمعات الحضرية نمواً على شكل قفزات، أدى إلى إفقار قطاعات عريضة من السكان، في الوقت الذي زادت فيه الطبقات العليا ثرواتها، تلك التمايزات الاجتماعية والاقتصادية وظروف العمل الرهيبة، أنشأت حالة عنف عام ومجتمعات حضرية جامحة، وهو الذي شجع الدولة على تكوين جهازاً شرطياً موكلاً بحفظ الأمن، طالت أياديه حتى المناطق النائية الريفية، وأنشئ نظام سجون ضخم تبعاً لذلك، غير أن تلك القوة الفجة لم تكن كافية، وكان على الشعب أن يتعلم طرق السلوك القويم والنظام الاجتماعي، وكان ذلك معناه في نظام رأسمالي شامل، القدرة على العمل والإنتاج، ومن هذا عرف مصطلح الضبط معناه، أنه "مكان يكتنف الذات فيه نظام فرض ومنفعة أداتية"، كانت مؤسسات الضبط متمثلة في السجون والمدارس والمستشفيات.
ويتحدث فوكو في كتابه "المراقبة والمعاقبة" قائلاً: "كان الجسد البشري يدخل آلية قوة تستكشفه وتفككه وتعيد تنظيمه، كان ثمة تشريح سياسي، هو مكيانيك قوة أيضاً، يولد ليحدد كيف يمكن التحكم بأجساد الآخرين، لا بحيث يقومون بما يُطلب منهم فحسب، بل بحيث يعملون كما يُرغب لهم أيضاً، بالتقنيات والسرعة والكفاءة التي تحدد لهم".
المجانين والعمل
الدولة في شكلها الجديدة كانت ترفض "المجانين" الذين صنفوا في مواقع العطالة إلى جانب الفقراء والبؤساء، وعدت العطالة أفظع تمرد على الإطلاق، فأنشئت مجموعة كبرى من دور الحجز، كانت إجراءات الحبس فيها اعتباطية، فقد كان المجانين يوضعون جنباً إلى جنب مع المساجين والفقراء والعاطلين عن العمل، في فضاء واسع لم تحدد وضعيته ومعناه بدقة، الذي بدا وكأنه يشكل وطناً لكل العناصر الخارجة عن المجتمع الجديد.
كانت لتلك المستشفى بنية شبه قانونية، تشبه الكيان الإداري، وسلطته معترف بها، وهو يقرر ويحكم وينفذ ويدين، ووضعت في أيدي مدراءه الأعمدة والأطواق الحديدية والسجون الأمنية الموجودة في المستشفى العام والأماكن التابعة له، ويمارسون وفقاً لتقديراتهم الخاصة أحكامهم التي تُنفذ دون طعن، بناء على سلطة منحها لهم الملك.
وبدءاً من ذلك العصر الكلاسيكي نظر للجنون للمرة الأولى كإدانة أخلاقية للعطالة، في مجتمع فرض ضرورة العمل، وقد أصبح لذلك العالم سلطة أخلاقية للفصل، تبيح له رفض كل الأشكال الاجتماعية التي لا تنفع، كما لو أنهم من عالم آخر.
خلقت المستشفى العامة للتأكيد على القضاء على التسول والعطالة باعتبارهما مصدراً للتسيب، وأصبح العمل داخل دور الحجز تلك يتخذ دلالة أخلاقية، فالمجتمع الحديث صاغ تجربة خاصة للعمل حتمت ظهور الحجز والضبط، وهي ضرورة نابعة من طبيعة اقتصادية وأخلاقية، فبينما كان المجتمع القديم يضع حداً فاصلاً بين مجتمع العاملين ومجتمع الإقصاء في مستعمرات الجذام، كان المجتمع الحديث يدمج المنبوذين منه في عملية الإنتاج.
إعادة إنتاج الفضيلة
لأن الدولة الحديثة تعيد تشكيل الثقافة في المجتمعات من خلال هيمنتها، فقد اتخذت الأخلاق في الدولة الحديثة شكل مؤسساتي، وعدت الخطيئة الأخلاقية بمثابة مؤامرة على قوانين المدنية المكتوبة وغير المكتوبة، وكان هذا القصاص الأخلاقي يتم من خلال حجز هؤلاء العاطلين في فضاء المستشفى العام الواسع، ويطبق القانون دون تهاون أو ليونة على شكل إكراهات بدنية شديدة الصرامة، وظهرت الإفتراضات القائلة بإمكانيات حدوث تقلبات تقود من النظام الأخلاقي للمبادئ إلى النظام الجسدي، أي بإمكانية المرور من الأول إلى الثاني دون زيادة أو إكراه.
وبذلك ألحقت الفضيلة كقضية من قضايا الدولة، التي يجب أن تتخذ إجراءات لفرضها. كانت جدران الحجز للمستشفى العام تحتوي على الجانب السلبي للمدينة الأخلاقية التي حلم بها الوعي البرجوازي في القرن 17، فهي مدينة أخرى تضم الذين حلموا بالإنسحاب منها، مدينة يسودها القانون من خلال فضيلة القوة وحدها، وقد أعيدت صياغة التلقين الديني للمحتجزين بما يتوافق مع مجتمع العمل والثروة الجدد.
وكانت النظرة السائدة أن الإنسان الذي استطاع تدجين الحيوانات الضارية، لن يستعصي عليه تقويم سلوك إنسان ضال مثله. لقد شكل الحجز أسطورة لسعادة إجتماعية، ذات طابعاً شمولياً: فللشرطة أوامر بالغة الشفافية تنطلق من مبادئ دينية، ودين تتحقق تعاليمه بدون تحفظ، والإكراهات التي يجب أن تتسلح بها الشرطة لتطبيق القانون، وشكلت تلك المؤسسات برهاناً على أن النظام يمكن أن يكون متطابقاً مع الفضيلة.
لقد كان الحجز ابتكاراً مؤسساتياً خاص بالقرن 17، فهو لا يمكن مقارنته بالسجن كما مورس في القرون الوسطى، بل هو إجراء اقتصادي ووقاية اجتماعية، نظر فيه إلى الجنون باعتباره أفقاً اجتماعياً للفقر، وعدم القدرة على العمل، واستحالة الاندماج مع الغير، من ذلك المنطلق أصبح الجنون جزء من مشاكل المدينة، فالدلالات الجديدة للفقر، والأهمية التي أعطيت لإجبارية العمل والقيم الأخلاقية التي ارتبطت بها، حددت تجربة جديدة للجنون واتجاهاته ومعانيه.
تحولت نظرة المجتمع للجنون في القرن السابع عشر، فبعدما كان الجنون في عصر النهضة يعلن عن نفسه في واضحة النهار في أدبيات شكسبير وثرفانتس، تم انتزاعه من تلك الحرية المخيالية، وقُيد ونُبذ وحُجز في قلعة المستشفى العام، بالعقل وقواعد الأخلاق والعمل الحديثة لمجتمع رأسمالي.
داخل الحجز
لم تكن تخلو دور الحجز تلك من الأبرياء حقاً من الجنون، فالتهم تعددت في غرابتها، بين السخط والزندقة والكآبة والكسل، أو حتى أن امرأة ألقت اعترافاتها بطريقتها الخاصة، اقتيد ساكنيها وفقاً للعديد من القوانين المبهمة والفضفاضة التي هدفت إقصائهم، بل والإنتفاع منهم في الأعمال القسرية.
ومع النظرة الداخلية لتلك المؤسسات الإصلاحية التي استهدفت تأهيل المجانين من جديد لإدماجهم في مجتمع العمل، نجد أنها كانت محض مهزلة أخلاقية، وظهرت في أدبيات القرن 18 العديد من الأوصاف للأوضاع داخل المصحة، فكانت أسرتهم مهترئة، فضلاً عن كونها من القش، موضوعة بجانب الحائط، ويغرق النائم في الماء الذي يتسلل من الشقوق ويتسرب إلى الغرفة.
لقد تحولت طرق الإصلاح إلى حيوانية تامة، تجاوزت فكرة إرادة الإصلاح، فقد ذهب الأمر إلى تحقير المجنون وإنزاله إلى مرتبة أدنى من الإنسانية، فقد كانت توجد حظائر للمجانين، يعاملون فيها تماماً كالكلاب، ما جعل فوكو يصف الجنون بإنه لم يعد من اختصاص الطب في القرن 18، ولم يعد ينتمي إلى ميدان الإصلاح، فالحيوانية المنفلتة من عقالها لا يمكن التحكم فيها إلا من خلال الترويض والتبليد، وأدرجت ثيمة جديدة في ثقافة ذلك القرن وهي المجنون\الحيوان.
إن ذلك الوعي بحيوانية المجنون، جعلت بعض الإصلاحيات تقيم طقوس الفرجة على المجانين، كحديقة حيوان للمجانين.
وفي نهايات القرن 18 الذي اجتاحته الثورات والمجاعات والكساد الإقتصادي من كل جهة، ولدت حركة تتعلق بالتأمل الاقتصادي والاجتماعي حول الفقر والمرض والمساعدة، ففصل المرض عن الفقر وكل أشكال البؤس، أي انفصل كل ما كان يلف الجنون من عراه، فانفصلت دائرة الفقر عن دائرة اللاعقل، وأصبح البؤس قضية ضمن القضايا المباشرة للاقتصاد، وانغمس اللاعقل في الصور العميقة للمخيلة، ولم يعد بينهما رابط، وما سيظهر في نهاية القرن 18 هو الجنون بحد ذاته كمرض، يمكن إخضاعه لدراسة علمية، وليس فقراً أو عطالة، كما تاهت ملامح تميزه بإلقاءه في فضاء سوق العمل وأخلاقياته الجديدة، ومحاولة إخضاعه لإعادة تأهيل تخدم رأس المال.