في حقيقة الأمر أن محاولات النظام الانقلابي لطمس كل ما يتعلق بثورة يناير وهي الحدث الإيجابي في تاريخ
مصر المعاصر؛ لم تتوقف، فعملية الطمس تلك مستمرة ولها الأولوية باعتبارها أحد أهم أهداف هذه المنظومة إزاء عالم الأحداث السلبي الذي أعقب الانقلاب العسكري، سواء بمذابح ومجازر عدة قام بها العسكر والأجهزة الأمنية ضمن صناعة جمهورية الخوف من جديد.
ومن المهم في هذا المقام أن نؤكد أن تلك المجازر كانت افتتاحية لذلك النظام، في محاولة منه لتثبيت أركانه إحساسا منه بعدم مشروعية هذا الانقلاب الذي لم يكن في حقيقته إلا قطع طريق على مسار ديمقراطي، والذي لم يعدم تبريرات من هنا أو هناك وسند من الإقليم والخارج لشرعنة انقلابه العسكري.
وفي هذا المقام كنت قد وعدت أن نواصل الحديث عن مفاصل حقيقية في أزمة سد النهضة واتصالها بمفهومي الأمن الإنساني والمواطنة، لولا هذا الأمر المستجد بعرض مسلسل يسمى "
الاختيار 2". ويا له من بؤس يتعلق بذلك الاختيار حينما يقدم سردية توطن الكراهية داخل الجماعة الوطنية، وتزرع أفكارا عنصرية شديدة الخطورة والفاشية ضمن فهم معين للوطنية، وضمن شيطنة قوى اجتماعية وسياسية بعينها، في محاولة لتبرير فعل الإبادة الإنسانية التي قامت عليه وبه هذه الطغمة العسكرية وأجهزتها الأمنية، والخطر في هذا الأمر هو استهداف عصب الجماعة الوطنية في مقتل.
ولذلك كنت قد أشرت مرارا وتكرارا إلى تلك النخبة التي مررت تلك المجازر بل وبررتها، وحاولت أن تتبنى تلك السردية المزورة حول مجازر رابعة وأخواتها من سابقاتها ولواحقها، في محاولة ليس فقط لطمس الذاكرة كما تحاول أن تفعل في أحداث يناير وضمن عملية تشويه خطيرة، ولكن بممارسة عملية
تزوير كبرى لأحداث عايشناها وكانت تنقل على الهواء مباشرة لتعبر عن خيار هذا النظام البائس، حينما قرر أن تدفع الجماعة الوطنية بأسرها ثمنا باهظا لبقائه في الحكم وتبرير شرعنة أفعاله القذرة النتنة التي لا تعبر في حقيقة الأمر، إلا أن يكون هؤلاء تحت خط الإنسانية.
ولذلك أكدنا أن هذه النخب التي تبرر للذين ارتكبوا هذه المجازر الرهيبة والخطيرة تمثل نخبا منحطة، كنت أقول عنها سابقا أنها محنطة. هذه النخبة منحطة ليس فقط بدعمها لنظام فاشي، ولكن بتزويرها الحقيقة. فتدهور حال هؤلاء ليصلوا إلى الدرك الأسفل؛ لا يقيمون وزنا إلا لمصالح آنية وأنانية. وليس هناك من تبرير لهؤلاء عندما وقعوا في دائرة الاختيار، فاختاروا أن يكونوا تحت خط الإنسانية مردودين إلى أسفل سافلين.
ومن ثم فإن هذا الأمر المستجد (مسلسل الاختيار)؛ لا أنزه بحال أن يكون أمرا مقصودا ومتعمدا لنكء الجراح، وفتح هذا الملف مجددا ضمن عملية تزوير كبرى من خلال هذا المسلسل البغيض الذي تحرى الكذب، وقدم الزور والبهتان في ثوب رواية تحاول تبرير هذه الإبادات الإنسانية وتقديم رواية تتعلق بالعسكر والأجهزة الأمنية؛ وكأنهم قد قدموا الخير الكثير لهذا الوطن بهذا الفعل الشنيع.. أراه متعمدا لأنه يريد أن يغطي على خيانة كبرى بدت واضحة في معالجة والتعامل مع أزمة سد النهضة، وبدا البعض يشير بأصابع الاتهام بشكل مباشر إلى رأس هذا النظام ومسؤوليته عن هذا التنازل الفادح والفاضح وهذه الخيانة المتعمدة، لذلك فإنه من الأهمية أن نربط بين هذا وبين رؤية الاستخفاف والإنكار والافتراء والتزوير التي يعتمدها هذا النظام، من خلال زبانية إعلامه ومن خلال أدواته وأذرعه الفنية والمخابراتية ليقدم سردية تجافي الحق والحقيقة، وتحاول أن تخلع على الجاني ثوب البطولة والتضحية وتخلع على الضحية ثوب العنف وتحيل عليه المسؤولية.
هذه الأمور كلها تتأكد مع سياسة هذا النظام بالاستخفاف الفاضح بالنفس الإنسانية في إطار عمليات أمنية فاشية مستمرة ودائمة، تتراوح ما بين الاعتقال والقتل المتعمد في أشكال كثيرة، سواء بالتصفية خارج إطار القانون أو بالقتل البطيء والمتعمد داخل السجون بما يسمى - تخفيفا - الإهمال الطبي، وكذلك الاختفاء القسري وتدبير القتل العمدي، وكذلك القيام بعمليات تعذيب ممنهجة، وأدناها يقع من خلال اعتقالات ومطاردات في ظل ظروف أقل ما يقال فيها أنها لا تستوفي أي مقاييس إنسانية في التعامل مع هؤلاء.
ولعل حوادث القطارات المتكررة وشكل المكابرة والعناد من قبل هذا النظام الفاشي الفاشل تؤكد على الاستخفاف المتعمد بأرواح الناس، ومن دون أي اعتبار لحرمة النفس البشرية، فيكون الإهمال والتغافل المتكرر المصحوب بالاستخفاف المستمر ليس إلا تعبيرا عن قتل عمدي في ثوب الإغفال المتراكم لمصالح الناس وضروراتهم الأساسية؛ بينما يشيد ويجهز لاحتفالات عدة - بعضها ثبت أنه بالأمر المباشر من السيسي نفسه - في محاولة منه للتأكيد على وجود النظام واستقراره.
إن عملية التزييف والتزوير الكبرى التي تمارس ضمن هذه السردية المقلوبة ضمن فعل هذا النظام الانقلابي؛ لا تقيم وزنا إلى كل هذه التأشيرات التي تؤكد على مسؤولية هذا النظام عن هذه المجزرة والإبادة الإنسانية ضمن تقارير حقوقية دولية ومحلية، حتى تقرير لجنة تقصي الحقائق التي تأسست للقيام بهذا العمل ونشرت ملخص تقريرها في تشرين الثاني/ نوفمبر 2014، فإن هذا التقرير للأسف الشديد لم يصدر بكامله ولم يترتب عليه أي إجراء بحق بعض هؤلاء الذين ارتكبوا تجاوزات من الدولة.
ورغم أنه كان تقريرا سياسيا مسيسا وأمنيا ملفقا؛ وأن هيئات حقوقية داخلية قد استدركت على هذه اللجنة وعلى تقريرها وعلى إغفاله لمسائل كثيرة، إلا أنه تضمن بعض إشارات واضحة إلى ضحايا "المذبحة". بل إنني أستطيع أن أقول إن أمورا وردت وبشكل عفوي من رئيس اللجنة الأستاذ الدكتور فؤاد عبد المنعم رياض، أستاذ القانون الدولي والقاضي بالمحكمة الجنائية الدولية، إذ أعلن أنه لا يطمئن لتقرير قد يصدره ويخلو من شهادة القوى التي وقعت عليها "المذبحة"؛ بل إنه أكد أنه سيعرض التقرير على الرئاسة أولا ثم بعد ذلك يقوم على نشره، ثم قال من بعد إن مؤسسة الرئاسة قد تحفظت على بعض عبارات هنا أو هناك خاصة تلك التي تتعلق بالجيش المصري ومشاركته في عملية الفض، وقد طلبت الرئاسة من اللجنة ورئيسها أن يقوم على الفور بحذف تلك العبارات وقد تم حذفها.
لك أن تتخيل إذا كيف يمكن صياغة هذه التقارير، وكيف يمكن وبشكل مبكر القيام بعملية تزوير حتى في هذا التقرير، كشفتها التصريحات العفوية من رئيس هذه اللجنة.
غاية الأمر في هذا المقام أننا أمام نظام فاشي يقوم على قاعدة قتل وإعدام المواطن وتبديد حقه الأساسي في حياة كريمة وعزيزة. صار هذا النظام بحق - كأليق وصف له - ضمن ممارسته لعملية الاستخفاف الكبرى مستصحبة بعملية تزوير أكبر؛ أنه "نظام قاتل للمصريين والمواطنين"، مستخفا بحياتهم ووجودهم ومقدراتهم والموارد الأساسية المائية التي تشكل مصدرا لحياتهم. ومن ثم فهو يقتلهم من كل طريق ويعدمهم في كل حال. لا يتوانى عن ذلك، وحتى ممارسا مكابرته وإنكاره وإغفاله. هكذا يبدو هذا النظام في تصوره وهو ينظر للمواطن في الأصل باعتباره العبء الأكبر على الدولة؛ وهو في استراتيجياته وسياساته لا يعمل إلا لمصالح عصابة مصالح، وتحالف منافع، لخدمة هذا النظام الاستبدادي الفاشي.
twitter.com/Saif_abdelfatah