صياغة العنوان أعلاه ليست من خيال كاتبه، فقد تم التحضير منذ سنوات طويلة للمرحلة الحالية التي نعيشها ويعيشها جيل عربي شاهد على كم الانهيارات المتتالية بمختلف الاتجاهات، ذروته التهافت العربي لإضفاء شرعية على المشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني، وبدرجة من الغباء والانحطاط الأخلاقي والسياسي المعهودين من أنظمة وسلطات، تمارس سادية جرمية على شعوبها من خلال جمع كل ألوان القهر والظلم والقتل بين قبضاتها وسجلاتها، لتمارس اليوم حبواً على بطونها نحو عدو شعوبها، لتستكمل ما بدأه من درس الإذلال التاريخي والجغرافي والبشري في المنطقة العربية منذ أكثر من سبعة عقود.
في محطات العدوان المستمر، وعند مفاصله الكبرى، شهدنا قيام تحالفات التصدي لهذا العدوان، أو للمشروع الصهيوني، منذ القمة العربية الأولى في أنشاص 1946، وتم فيها التأكيد على عروبة فلسطين وأن مصيرها مرتبط بحال دول الجامعة العربية كافة، إلى قمة الخرطوم بعد هزيمة النظام العربي 1967، وإشهاره اللاءات المعروفة بـ"لا صلح لا تفاوض لا اعتراف"، وقمة الرباط 1974 التي تم التأكيد فيها على ضرورة الالتزام باستعادة كامل الأراضي العربية المحتلة في عدوان حزيران/ يونيو 1967، وعدم القبول بأي وضع من شأنه المساس بالسيادة العربية على مدينه القدس، إلى قيام تحالف "جبهة الصمود والتصدي" بعد قمة تونس 1979.
بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، توالت القمم والمحطات التي تتكرر فيها إذاعة البيانات عن القضية الفلسطينية وشعبها، ثم أصبحت حشوا موسميا خطابيا في كل لقاء معلن، خصوصاً ما ختمته قمة بيروت 2002 عن "المبادرة العربية للسلام".
هذه البيانات وقرارات القمم نسفتها المؤسسة الصهيونية مئات المرات، وتضاعف العدوان والاستيطان الذي زحف على معظم الاراضي الفلسطينية، وابتُلعت القدس أمام ناظري العرب المسلمين والمسيحيين، وربما كانت المفارقة الأشد إدهاشاً لتتويج العدوان الصهيوني، مرحلة انقضاض النظام الرسمي العربي على شوارعه بثورات مضادة. والمفارقة هنا ليست في استحضار وقائع الثورات، بل في استحضار الجبهة العربية المتحدة المتماسكة؛ لا لصد عدوان إسرائيل، بل لحماية مشروعها من خلال احكام القبضة الأمنية القهرية المدمرة على المجتمعات العربية، لحماية المشروع الصهيوني من التضعضع الذي أصابه إثر انكشاف تغلغله وتحالفه مع الاستبداد العربي.
كان المعيار الفاصل لكل القرارات العربية وسياسيات النظام العربي في معركة تحرير فلسطين وصد المشروع الصهيوني، هو موضوع الحرية والمواطنة والتداول السلمي للسلطة، وكان الفلسطينيون ينتظرون جبهة عربية تؤازرهم في كل مراحل العدوان تقوم على التحرر من المستبد والطاغية، ليكون بمقدورها التأثير على دحر المحتل، نظراً لاستمرار حالة التخاذل العربي التي تتطور أمامهم من حالة التآمر لحالة العدوان المباشر الذي يصيبهم ويصيب أشقاءهم في المجتمعات العربية، ويحاصرهم بقيود الخنوع والإذلال والقهر الذي تطور في مرحلة الثورات لمرتبة القتل والتهجير الجماعي، وإذكاء روح التمييز المذهبي والطائفي والقُطري.
تمجيد الفكرة الصهيونية أو الثناء عليها، برسائل عربية واضحة ومشفرة لحماية "أمن إسرائيل" المرتبط بأمن أنظمة وظيفية ودونية في نظرتها الإعجابية لوحشية المشروع الصهيوني، وتحويل مجتمعاتها للعبودية الخاضعة باسم "السلام" أو الأمن المرتبط بدوام الطاغية وزرع الأوهام عنه في مخيال رعيته، وتفريغ الممارسة السياسية والشعبية من مضمونها التحرري، كل هذا يزيد أزمات الطاغية عمقاً.
الانخراط في جبهة عربية لحماية أمن اسرائيل، لم يعد مقتصراً على التحالف المعلن بين هذا النظام أو ذاك، ولا من خلال إعلان النية للتطبيع معه، أو توقيع اتفاقات سرية لفض الاشتباك.. الانخراط في دوامة قمع المجتمعات والشعوب يعني ذوبان الجبهة العربية الرسمية مع المشروع الصهيوني، ولكن ليس من باب الندية التي يحاول الظهور بها الحاكمُ العربي، الذي يوضح له ترامب ونتنياهو استعلائية الأمر بالتكيف مع الوظيفة الملقاة على عاتقه لحمايته وتمكينه في وقت فات على تصحيح أو تراجع، ولم يبق للعربي وللفلسطيني غير المواجهة لإعادة الاشتباك مع الطاغية والمحتل، وهي أقل تكلفة من محاولات "التكيف" في مشروع التصهين والقهر.
twitter.com/nizar_sahli