"لقد شعرت
بالعطش".. راودني هذا الشعور القاتل بالعطش فور أن قرأت تغريدة وزير الخارجية
الإثيوبي وهو يزف خبر تحول نهر
النيل إلى بحيرة، مختتما حديثه بجملة "
النيل
لنا".. شعور بالخطر الشديد والخوف من عطش قادم لا محالة يهدد حياة مئة مليون
مصري.
ولكني تحولت من شخص يشعر
بالخطر من تغريدة المسؤول الإثيوبي؛ إلى مواطن مصري يعيش هذا الخطر واقعا أمامه
وهو يرى التلفزيون الإثيوبي يبث مقاطع مصورة لبحيرة
سد النهضة وهي ممتلئة عن آخرها،
مع تهنئة من رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بنجاح إثيوبيا في ما أرادت، ووصولها
إلى المرحلة قبل الأخيرة من خطتها وحلمها الذي قارب العقدين من الزمان.
مصر هبة النيل.. ليست مقولة
خالدة وصف بها هيرودوت علاقة المصريين بنهر النيل، ولكنها حقيقة وواقع يمكنك أن
تراه متجسدا في أبناء الدلتا ومحافظاتها، في مزارعين وفلاحين يتنفسون من وجود
النيل، ويأكلون من جريان النيل، لو جف النيل لرأيت الجفاف في وجوههم وكأنهم لم
يشربوا منذ مئة عام، وإن نقص منسوب النيل رأيتهم كالذي يلفظ أنفاسه الأخيرة.
في مصر نحب النيل كحبنا
لأنفسنا وأموالنا وأبنائنا وآبائنا، فهو شريان الحياة الذي لم يخذلنا يوما ولم
يتوقف عن التدفق، ولم يعبأ أو يشكو لا من تلوث ولا من إهمال أو من مياه صرف صحي
تصب فيه صبا، ولكنه مع أزمة سد النهضة لم يعد يتحمل.. تعب نهر النيل وهو على وشك
الجفاف، فلم يعد في مقدوره ري الأراضي الزراعية أو منع العطش عن الشعب المصري
وإثيوبيا تغلق المنبع، والنظام المصري طعن النيل في ظهره وبات على نهر النيل أن
يعترف بأنه يواجه "النكبة المصرية".
بعد نكسة حزيران/ يونيو عام
1967 خسر المصريون الأرض في سيناء، وواجهوا الاحتلال الإسرائيلي مرة أخرى، وانكشف
لهم زيف شعارات جمال عبد الناصر ونظامه، وتجرعوا بمرارة الهزيمة، ولكن شتان ما بين
النكسة والنكبة.. في نكسة 67 واجه المصريون أنفسهم وأخطاءهم وعملوا على استعادة
"الأرض" في تشرين الأول/ أكتوبر 1973، ولكن في أزمة سد النهضة فمصر
تواجه نكبة حقيقية لا تتعلق بأرض يمكن استعادتها بحرب أو عبور أو تدمير لخط بارليف،
وإنما تواجه نقصا في حصتها من
المياه، وسدا تم الانتهاء من بنائه،
وبحيرة تمتلئ
يوما بعد الآخر وباتت أي حلول أخرى حتى العسكرية منها لها أضرار جسيمة ومباشرة على
مصر ومن قبلها السودان، إما بغرق العديد من المدن أو بأزمة حقيقية مع دولة بحجم إثيوبيا؛
ليست ممن يتلقى ضربة عسكرية لمشروع كهذا وتقف مكتوفة الأيدي.
النكبة المصرية كانت بيدي
لا بيد عمرو، نعم إثيوبيا تعنتت ولا زالت، ولكنها وفقا لما قاله السيسي بنفسه قبل
ذلك أكثر من مرة فهي تدافع عن مصالحها، وتحاول أن تسير نحو تنمية مواردها والحفاظ
على مقدرات شعبها، وهذا حقها الأصيل كما قال السيسي.. المشكلة الحقيقية والمتسبب
الحقيقي في النكبة المصرية الحالية هو نفسه عبد الفتاح السيسي؛ الذي
قزّم دور مصر
في أفريقيا وذهب بعيدا عن العمق الأفريقي
وترك الساحة لإثيوبيا كي تنشئ علاقات
قوية مع دول الجوار، ليصبح الاتحاد الأفريقي داعما لموقفها.
تحولت مصر في عهد السيسي من
نظام كان في عهد جمال عبد الناصر داعما لحركات التحرر في القارة الأفريقية، ومعلنا
أن الاهتمام بقوة الدول الأفريقية من أهدافه الاستراتيجية، إلى نظام عسكري تافه
يرأسه جنرال اسمه السيسي؛ يصفه الرئيس الجنوب أفريقي، وفقا لما نقلته وكالة
بلومبيرج، بأنه ذهب مهرولا إلى
سيده ترامب كي يطلب دعمه في أزمة سد النهضة.
النكبة المصرية باتت واقعا
يتوجب على الجميع الاصطفاف لمواجهته ووضع خطط حقيقية لآليات التعامل معها، في ظل
وجود نظام عسكري لم يعبأ يوما بأمن مصر القومي أو المائي، وإنما سعى منذ اللحظة الأولى
لإضعاف الموقف المصري في أزمة سد النهضة، وحرق كل أوراق القوة التي كانت في يده
أمام مفاوض إثيوبي يعرف جيدا كيف يدير الأزمة لصالحه، وكيف يأتي بحلفاء وشركاء له
مثل الصين والإمارات كي يكسب بهم الموقف؛ في مواجه دبلوماسية مصرية كان جل
اهتمامها مطاردة ميكروفون قناة الجزيرة.
twitter.com/osgaweesh