قضايا وآراء

محمد قطب.. مُعلّم الحركة الإسلامية

1300x600
تَحِلُّ بعد أيام قلائل الذكرى السادسة لوفاة المفكر الجليل والمسلم العظيم والمعلم الرائد؛ أستاذنا وأستاذ آبائنا: الأستاذ محمد قطب، رحمه الله ورضي عنه وغفر له وأثقل ميزانه. إذ انتقل إلى جوار ربه صباح الجمعة الرابع من نيسان/ أبريل 2014م؛ في أحد مستشفيات مدينة جدة السعودية، عن عمر ناهز الخامسة والتسعين؛ أفناها في خدمة دين الله، لا يخشى في الحق لومة لائم.

وهو محمد قطب إبراهيم الشاذلي، أحد آباء الحركة الإسلامية، وأحد أهم أعلامها ومعلميها على الإطلاق خلال القرن العشرين؛ والشقيق الذكر الوحيد (والأصغر) للشهيد سيد قطب رحمه الله.

وناهيك عن كون الأستاذ محمد رحمه الله هو الشارح الأهم والأدق والأعمق لفكر شقيقه الشهيد، فقد خلف رحمه الله حوالي الأربعين كتابا؛ أكثرها محاضرات مُنقَّحة، لتُسهِم في تشكيل وجدان أجيال، ويكون لها الأثر المباشر والأكبر (مثلا) على ما سُمى بجيل الصحوة في السعودية، الذين تتلمذ أكثرهم على الأستاذ مباشرة بعد هجرته من مصر إبَّان السبعينيات.

ورغم أن الأستاذ محمد قطب لم ينتم في حياته قط لتنظيم الإخوان المسلمين، ولا لأي تنظيم آخر؛ سواء في حياة شقيقه الشهيد أو بعد استشهاده (في 1966م)، إلا أن الصحافة وصفته (أو وصمته!) بأنه المفكر "الإخواني".

صحيح أن الشهيد سيد قطب قد انتمى تنظيميّا للإخوان، عام 1953م تقريبا وكان عمره 47 عاما؛ إلا أنه من الإجحاف الفاحش اعتبار الأخوين قطب مفكرين "إخوانيين"؛ ففكرهما لم يكن نتاجا للتنظيم ولا للانخراط في صفوفه، بل على العكس؛ إذ كان فكرهما سببا في اهتمام التنظيم بهما، والإقبال على آثارهما؛ وتبنيها لبعض الوقت. وإذا كان سيد قد انتمى للتنظيم مُفكرا مكتمل النضج، حتى إنه صار لفوره مسؤول قسم الدعوة ومحرر مجلة الإخوان، في حين ظل محمد بعيدا عن التنظيم كليّا حتى آخر أيام حياته؛ فإن ذلك كله يضعهما في مكانة أسمى فكريّا من التنظيم، وأعظم أهميَّة على المستويين الدعوي والمعرفي، بل والحركي! وإنه من نكد الدنيا أن يتفق الإخوان وخصومهم السياسيين على اختزال الرجلين، بنسبة فكرهم للتنظيم البائس؛ رغم أن العكس هو ما قد يصح مع كثير من الاعتساف!

ولعلَّ أهم ما خلف الأستاذ محمد من كتب ينقسم إلى مجموعتين: المجموعة الأولى يتعيَّن على كل مسلم قراءتها، واستيعابها، أما المجموعة الثانية فهي بمثابة مستوى ثان، يمكن لكل أحد قراءتها بعد الفراغ من المجموعة الأولى؛ لكنها فرض عين على المتصدّرين للعمل الدعوي والفكري.

وتتكون المجموعة الأولى من عشرة كتب، وقد رتبتها على الوجه الذي يحقق أقصى منفعة؛ وهي: "لا إله إلا الله عقيدة وشريعة ومنهاج حياة"، و"قبسات من الرسول"، و"الإنسان بين الماديَّة والإسلام"، و"دراسات في النفس الإنسانيَّة"، و"مفاهيم ينبغي أن تُصحَّح"، و"معركة التقاليد"، و"التطور والثبات في حياة البشريَّة"، و"ركائز الإيمان"، و"مكانة التربية في العمل الإسلامي"، و"كيف ندعو الناس". أما المجموعة الثانية، المكونة من خمسة كتب؛ فهي غير مرتبة، ويمكن قراءة أي منها حسب الحاجة؛ وهي: "حول التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعيَّة"، و"كيف نكتب التاريخ الإسلامي"، و"حول التفسير الإسلامي للتاريخ"، و"منهج الفن الإسلامي"، و"منهج التربية الإسلامية".

أما ما سوى ذلك من كتبه؛ فهي إما تطبيق للمقولات المنهاجيَّة الرئيسية التي وردت في هذه الكتب، أو تناول لوضع تاريخي توفَّرت له مصادر أحدث، أو تحليلات ومطارحات تجاوزها الحدث، ولم يتسنَّ للأستاذ تحديثها لأسباب يطول شرحها.

ومن أهم كتابات الأستاذ محمد، التي بسط فيها بعض تصورات شقيقه الكريم؛ كتاب: "لا إله إلا الله عقيدة وشريعة ومنهاج حياة". إذ هو شرح وبسط لفصل عقده الشهيد في كتابه الأشهر: "معالم في الطريق"؛ بعنوان: "لا إله إلا الله منهج حياة". وكتيب الأستاذ محمد لا يشرح معنى الشهادة مدرسيّا فحسب، بوصفها الركن الأول من أركان الإسلام؛ بل يتعامل معها بوصفها رؤية كونيَّة مُتكاملة تُعيد تشكيل الوجود الإنساني وتصوراته. إذ إن ما ينبني على التوحيد، من تصورات وأفكار ومناهج وسلوكيات ومواقف؛ يختلف قطعا عما ينبني على الشرك. والكتيب على صغر حجمه تجديد عصري لمعنى التوحيد، وبسط لمقتضياته وشتى تجلياته.

ولعلَّ من أنفس ما خلف أستاذنا هو كتابه: "كيف ندعو الناس". وهو كتيب يكشف محددات وأولويات وآليات الدعوة إلى الله في العصر الحاضر، محررا إياها من أكثر أوهامها الحداثية، التنظيمية والحزبيَّة والدولتية؛ لتخرج إلى أفق أعلى: أفق الدعوة إلى الله، بوصفها صيرورة إنسانية- اجتماعية عالمية لا تتوقف إلى قيام الساعة. لا تتوقف ولا تستهدف أي تحقُّق دنيوي ولو كان هداية الناس، إذ إنها إقامة لحجة الله على النفس وعلى الخلق، أما الهداية فأمر معلق بمشيئته وحده جل شأنه. وحري بكل مسلم الاطلاع على هذا الكتيب النفيس، واستيعابه جيدا؛ للاضطلاع بما يستطيع من أمر هذه الدعوة. إذ أنها ليست مجرد تكليف تعبَّد الله به كل مسلم قدر طاقته فحسب، بل هي هدف الوجود الإنساني وغايته.

وربما كان كتاب الأستاذ المعنون: "قبسات من الرسول"؛ أحد أحب الكتب إلى قلبي. فهو على صغر حجمه نفحة روحيَّة عظيمة فاض بها وجدانٌ صادق الحب لحضرة سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجولة إنسانيَّة وأخلاقيَّة دافئة في سيرة الرحمة المهداة. إن مثل هذا الكتيب الرقيق زاد نفسي وروحي حقيقي للمسلم المعاصر، بغير انشغال بالنقول والروايات والأسانيد؛ فكأنك ترى حضرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يتحرك أمامك حركة أنت مأمور باحتذائها.

أما كتابه: "منهج الفن الإسلامي"؛ فهو أهم ما كتب في موضوعه على الإطلاق خلال مئة عام، ويليه في الأهميَّة (في ذات الموضوع) شذرات مبثوثة في كتابات علي عزت بيغوفيتش. والكتاب لا يتناول الفن "الإسلامي" بوصفه فنّا يُنتجه المسلمون فحسب، ناهيك عن الإسلاميين المؤدلجين؛ الذين أساء جيل السبعينيات منهم إلى أطروحة الكتاب إساءات شنيعة، إذ نسجوا حولها "أسلمة" مُبتذلة للواقعيَّة الاشتراكيَّة، وأسموها زورا بـ"الأدب الإسلامي"، واشتقّوا من لغوهم "واقعية إسلامية" سخيفة في صلابتها وجمودها، وفي تكبيلها الرحابة الفنيَّة الإنسانيَّة بسُخف مؤدلج، ما فيه من حسن الذائقة ولا من جمال المباني، ولا من عمق المعاني؛ شيء يرقى بالروح الإنساني.

إذ يتعامل الأستاذ محمد رحمه الله مع الفن الإنساني كله بوصفه فنّا إسلاميّا، ما انطبق عليه شرط موافقته نوازع الفطرة وتلبية الأشواق الإنسانية العليا، وكان مرور هذا الفن بالسقوط الإنساني والإخلاد إلى الأرض مرور المعترف بالضعف الإنساني، المشفق عليه؛ غير المكرِّس له ولا المحتفِل به. وهو في ذلك يعكِسُ فوق رحابة الطرح، المستمدة من استقامة الفهم لمقتضيات التوحيد؛ إدراكا فريدا لأهميَّة الفن في الترقي الذوقي والروحي لبني آدم. ومن ثم، تجده يسوق أمثلة متميزة من إنتاج فنانين عظام أمثال طاغور وجيمس جويس، مُبينا كيف تُدلل على مقصوده "النظري"؛ وذلك في ظل قصور إنتاج المسلمين المعاصرين في هذا المجال.

ومن أجمل ما في هذا الكتاب الفذ، قراءة الأستاذ لتجربته الفنية القصيرة من خلال الإطار النظري الذي طوَّره. فالفن عنده حيرة وشوق حقيقي لعالم الماوراء، كما يقول بيغوفيتش. لذا، يرى الأستاذ رحمه الله (عن حق) أن التوهُّج الفني يفتُر إذا عثر الإنسان بأجوبة لأسئلته، إذ إن أهم شروط صدق التجربة الفنية هو صدق المعاناة في البحث عن المعنى. وأنا أنصح باقتناء الطبعات القديمة من الكتاب؛ فإن الطبعات الحديثة قد حُذِفَت منها أكثر الأمثلة الفنية لسبب مجهول، وصار الإطار النظري مجردا، مما يُوهِن مقدرته التفسيرية.

أما أوَّل ما ألَّفه الأستاذ محمد قطب على الإطلاق، وأحب كتبه إلى نفسه؛ فهو: "الإنسان بين المادية والإسلام"، وإن لم يكن أول ما نشر باسمه. وهو نقاش مدرسي كلاسيكي مهم لآراء فرويد، وحصيلة دراسته لعلم النفس إبَّان عقد الأربعينيات من القرن العشرين. صحيح أن الدراسات النفسية في الغرب قد تجاوزت فرويد منذ عقود، لكن قراءتنا لدرس علم النفس، وتفكيكنا الواعي لمقولاته، انطلاقا من الإسلام؛ لم يتجاوز للأسف ما قدَّمه الأستاذ قبل ثلاثة أرباع القرن. والكتاب تأسيسي مهم، وإن تم تجاوز أطروحته في بعض جوانبها، لكنه يظل مرحلة مهمة من مراحل تطور الفكر الإسلامي الحديث؛ يلزم الاطلاع عليها للبناء فوق الصالح منها. وهو يحوي بذور أكثر مقولات الأستاذ في التربية وفي علم النفس، وهي من أعمق ما طُرِحَ في هذا المجال انطلاقا من الأصول الإسلامية. وسيدرك القارئ حجم تطور هذه المقولات، وازدياد تركيبيتها؛ في بعض كتبه الأخرى، مثل: "دراسات في النفس الإنسانية"، و"منهج التربية الإسلامية".

وللأستاذ كتابان مشهوران في أوساط الإسلاميين المؤدلجين، بسبب أحكامهما الصلبة وتعميمهما المبالغ فيه؛ هُما: "واقعنا المعاصر"، و"مذاهب فكرية معاصرة". والحقيقة أن التأريخ للواقع الثقافي قد تجاوزهما، مثلهما مثل كتاب محمد محمد حسين: "الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر"؛ لا بمصادر جديدة فحسب، بل برؤية أكثر تركيبية. ومن ثم، فعندي أن أهميتهما مقصورة على الباحثين المتخصصين، وذلك بوصفهما مرحلة مهمة من مراحل تطور الرؤية "الإسلامية" للواقع. لكنَّ الإسلاميين يستسهِلون لوك هذه الأحكام، مُنتزعة من سياقها التاريخي؛ لتيسير تصنيف الفاعلين على أرض الواقع، وأدلجة الرؤية. وهو عكس مقصود الأستاذ على طول الخط، رحمه الله وأثقل ميزانه وعفا عنه.

اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده واغفر لنا وله.