قضايا وآراء

السياسي والمختص في زمن كورونا

1300x600
منذ عقود والمنظومات السياسية في شتى أنحاء العالم، تحرص على تحقيق عناصر القوة لبلادها، تتسلح قدر المستطاع بالمعدات العسكرية، والأجهزة الاستخباراتية، وتنفق أموالاً طائلة على تحقيق الأمن الداخلي، حتى أصبح السياسي هو المُفتي لجميع شؤون الحياة. إذ طغت سلطته القانونية في بعض البلاد وغير القانونية في بلاد أخرى على توزيع ثروات العباد، والحكم على أهمية المشاريع، وترتيب أولوياتها حسب رؤيته الخاصة، مما سبب خللا في موازين الحياة.

من كان يتحسب لمثل هذا الوباء العالمي؟ من أنفق مليارات الدولارات لمواجهة الأمراض كما تجهز بالملايين لمواجهة الأعداء الخارجيين؟ وفي بعض الدول للمعارضين الداخليين؟ من أخذ باعتباره الأمن البيئي وسبل الوقاية من الأمراض الوبائية؟

لماذا يتجاهل السياسيون توصيات المختصين؟ 

في 30 كانون الأول/ ديسمبر 2019، حذر لي وين ليانغ، طبيب العيون الصيني، زملاءه الأطباء من فيروس جديد لا يشبه السارس، ناصحاً إياهم بارتداء ألبسة واقية، وبعد ساعات من الدردشة الالكترونية مع أصدقائه، وصل مسؤولون من مكتب الأمن العام الصيني، وحذروه من تداول مثل هذه المعلومات عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وأجبروه على توقيع ورقة يتفهم فيها ذلك. وفي السابع من شباط/ فبراير 2020 تُوفي لي بسبب فيروس كورونا.

وبعد أنْ تفشى الفيروس في الصين بأعداد كبيرة، أبدى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب استخفافاً كبيراً بالفيروس وسرعة انتشاره، وذلك على اعتبار أنّ أمريكا بعيدة عن المرض، إذ تحيطها المحيطات والمساحات الجغرافية التي تمنع وصول المرض إلى بلاده، ولما ازدادت أسئلة الصحفيين تجاه فيروس كورونا أجاب ترامب على سؤال صحفي بأنه لا يمكنه أن يكون سياسياً دون أن يصافح السياسيين، فالناس يأتون لزيارته ويريدون مصافحته، يريدون أن يعانقوه حتى ينسجون علاقات سياسية جيدة، فإذا ما أعرض عن مصافحتهم، فسوف يُفسد العلاقات ويعطلها.     

لم يدم تجاهل ترامب للوباء العالمي، فقد وصل الفيروس إلى بلاده، وهنا لا بد أن نقف على أنانيته المفرطة، إذ لم يتحرك ترامب إلا بعد أنْ وصلت النيران إلى عباءته، فلم يكترث في الحقيقة لآلاف الإصابات في الصين وأوروبا وبلاد أخرى، بل تعامل مع الأزمة بعقلية الحرب العالمية الأولى والثانية، بيد أنَّ العولمة القائمة على الاتصال والتواصل، والاحتكاك المباشر بين البشر، بددت ظنونه بالخيبة التامة.

وفي إيطاليا، أعلن عدد من المسؤولين عن أهمية عامل الوقت الذي داهمهم من غير استئذان، وعبروا عن أسفهم لأنهم لم يأخذوا عوامل السلامة مسبقاً، وأكدوا أنَ بإمكانهم احتواء الأزمة، وتجنب آلاف الإصابات لو أنهم أخذوا موضوع فيروس كورونا بجدية في وقت مبكر.

أيضاً هناك عدد من الدول العربية وغير العربية التي أعرضت عن التعامل مع فيروس كورونا بشكل جاد، وصدرت الغرور السياسي الذي لا ينصت إلى المختص، ولمّا وصل الفيروس بين أفراد شعوبهم أنكروا الإصابة به، وجيّشوا العديد من الإعلاميين للسخرية منه، وتكذيب كل من يخرج للحديث عن كورونا، بل وصل الادعاء عند بعضهم إلى أنَّ الشعب لديه المناعة الفطرية التي تقوى على الفيروس؛ لكونه اعتاد على شرب المياه الملوث، وأكل الطعام غير الصحي.

بهذه المعطيات وغيرها، هل نحن أمام سياسي يشبه بابا الكنيسة في استبداده زمن العصور المظلمة؟ هل نحن أمام صور من الاستبداد الذي يظهر بمظهر المتحضر؟ هل السياسي الذي يسعى إلى أن يكسب الانتخابات الديمقراطية من خلال الإعلام والدعاية الانتخابية والتحالفات الخارجية قادر على تقديم مصلحة الإنسان وحقوقه الإنسانية على أطماعه الشخصية؟

أعلم أني أثرتُ الكثير من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات مركزة، لكني لستُ بمقام المجيب عن كل شيء. يكفي أنْ أثير لديك صورة للتفكير في الزاوية التي تريدها، لذلك سمحتُ لنفسي أنْ أقول إنَّ بيت القصيد الذي تتكئ عليه مجموع الأزمات التي فجرها فيروس كورونا يكمن في منظومة القيم التي تقوم عليها السياسات الداخلية، والعلاقات الدولية.

إننا أمام أزمة أخلاق عالمية، عززتها أمريكا عبر عقود من الزمن، وكشفتها تغريدات ترامب عندما سأل الله أنْ يحفظ أمريكا، ولمّا تلقى انتقادات بالأنانية، حذف التغريدة، وغرد مرة أخرى: حفظ الله الجميع. ثم عزز وجه أنانيته مرة أخرى عندما فاوض الجهات الألمانية المختصة التي تسعى للوصول إلى علاج لفيروس كورونا، حيث طلب نقل التجارب المخبرية عنده على أن يكون العلاج لأمريكا أولا، فسجل أصحابها عليه موقفاً أخلاقياً، وقالوا العلاج للجميع وليس لأمريكا فقط.

أعتقد أننا بحاجة ماسة لبناء منظومة قيمية صادقة مع الذات البشرية، ومتوازنة مع المصالح الإنسانية، وقادرة على عبور أزمات اليمين المتطرف المتنامي في جميع أنحاء العالم. وقد تكون أزمة كورونا فرصة لبناء تلك المنظومة في ظل انكشاف عورة المنظومة الحالية، وتدهور الأوضاع الاقتصادية للكثير من الدول الكبيرة. وقد أثبت التاريخ أنَّ العديد من المبادرات الجديدة قد وجدت طريقاً معبداً أثناء الأزمات الكبيرة، أو بعدها.