أفكَار

السودان.. الثورة تعيد موقع المرأة في المجتمع إلى الصدارة

الدكتور حسن الترابي كان سباقا إلى تقديم فهم منفتح حيال موقع المرأة في المجتمع (أنترنت)

مازال موضوع المرأة وموقعها في الإسلام يثير جدلا فكريا وحقوقيا وسياسيا في مختلف مواقع القرار في العالم.. ولازالت الاتهامات للإسلام والإسلاميين باستضعاف المرأة وامتهانها تجتاح الكثير من المنظمات الحقوقية وتقاريرها ذات التأثير السياسي الكبير.

ومع أن علماء الإسلام من الرجال والنساء، قبل قادة العمل الإسلامي قد برهنوا بالملموس على فهم تقدمي لحقوق الإنسان بشكل عام، والمرأة بشكل أخص، إلا أن ذلك لم يحسم الجدل بشأن المطلوب من أجل الوصول لتحقيق العدل في العلاقة بين المرأة والرجل باعتباره جزءا من تحقيق العدل بين مختلف بني البشر.

ولقد فتحت ثورات الربيع العربي التي أسقطت جدران الخوف والاستبداد الباب واسعا للنقاش حول مختلف الملفات من دون خطوط حمر، وعاد ملف المرأة مجددا ليتصدر المشهد، ليس فقط في المستوى الحقوقي المتصل بالقضايا الأسرية العابرة، وإنما في القضايا الفقهية الرئيسية المتصلة بالحقوق المدنية، ولا سيما منها الميراث والولاية.. 

"عربي21" تفتح ملف الحقوق الأساسية للمرأة في الإسلام، في سلسلة من التقارير والحوارات الفكرية، في سياق إدارة حوار فكري بناء يسهم في تقديم فهم أعمق للحقوق الأساسية للمرأة في الإسلام ولدورها في المجتمع.

اليوم يعرض الإعلامي والصحفي السوداني خالد سعد في هذا التقرير الخاص بـ "عربي21"، لأطروحات قادة الإسلاميين السودانيين ورأي عادة من الناشطات لموقع المرأة في الإسلام.

 

الثورة تعيد قضايا المرأة للصدارة


وضعت الثورة الشبابية التي أطاحت بنظام الرئيس السوداني عمر البشير، قضايا المرأة في صدارة الأحداث الفكرية والسياسية في البلاد خصوصا بعد الدور البارز الذي لعبته المرأة في الثورة حتى بات شائعا لقب "الكنداكة" على الثائرة من النساء مستلهمين في ذلك أسم واحدة من ملكات الممالك التاريخية السودانية القديمة.

ولما كانت قضايا المرأة من القضايا المستحدثة والقديمة في آن، فقد باتت تستحوذ على نصيب وافر من مناقشات العلماء المسلمين والباحثين والسيدات المدافعات عن حقوقهن وأوضاعهن في المرحلة السياسية الجديدة دون أن يغفلن الاشكالايات التي واجهنها في عهد النظام المعزول، بيد أن الملاحظ في هذا الخصوص شبه اتفاق من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار على أن هنالك الكثير من الاخفاقات الحادة التي حدثت لوضع المرأة في المشروع السياسي الذي طبقه الإسلاميون في السودان بقيادة الرئيس البشير.

وعلى الرغم من اختلاف وجهات النظر بين العلماء في شأن المرأة، إلا أن الغالبية لا يرى اخفاقا في وضعية المرأة في الدين، وأن المشكلات التي تواجه قضايا المرأة عادة ما ترتبط بالتطبيق، وفهم الجماعات الإسلامية لدور المرأة في المجتمعات المسلمة، ونقد محاولة الاتجاهات الداعية إلى حصر المرأة في أدوار محددة ومقيدة وفق فهم ينظر إلى المرأة بدونية، فضلا عن عدم الاعتراف بالتعدد الإثني والعقدي والثقافي في البلاد، ما أضر بوضعية المرأة ودورها، وجعلها من أكثر الفئات الاجتماعية تضررا.
 
المرأة بين الأصول والتقاليد:

صادف الإعداد لكتابة هذا التقرير، جلسة ثقافية نظمتها مجموعة الإحياء والتجديد في الخرطوم لقراءة كتاب زعيم الإسلاميين الراحل الدكتور حسن الترابي بعنوان (المرأة بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع).

ويُعد الترابي، رحمه الله، من بين أبرز السودانيين الذي قدموا اجتهادات فقهية جريئة في دور المرأة في الإسلام بجانب آخرين أثروا الساحة الفكرية من منطلقات فكرية وسياسية متباينة.

 



وفي قراءته لكتاب (المرأة بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع)، يشير الباحث أحمد الصديق إلى أن الترابي لخص أطروحاته حول المرأة في التفريق بين الأفكار التي أجبرت وقعدت بالمرأة عن التطور والتي استقيت من المجتمع وتلك التي حثت عليها تعاليم الشرع الحنيف، ففي مجال غض البصر على سبيل المثال يقول الترابي: "ولا ينبغي أن ينظر الرجل إلى المرأة ولا المرأة إلى الرجل باسترسال يزكي دواعي الفتنة بل ينبغي كف البصر متى ما وقع في النفس شيء، قال تعالى (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن). وفي الحديث عن جابر رضي الله عنه قال سألت الرسول صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري رواه مسلم، مبينا أنه لا ينبغي أن يزدحم الرجال والنساء بحيث تتقارب الأنفاس والأجساد إلا لضرورة عملية كما في الحج، وحيثما وجد الرجال في البيوت والطرقات أو المجالس أو المناسبات العامة يجب أن تتمايز الأوضاع شيئا ما. ولذلك تمايزت الصفوف في الصلاة لأن صفها يتراص الناس فيه مقاما ومقعدا ولأنها موضع يتوخى فيه التجرد الشديد من كل صارف عن ذكر الله".

 



وأوضح الصديق من قراءته لكتاب "المرأة بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع"، أن الترابي لا يمنع الالتقاء بين الجنسين ولا يسميه اختلاطا بل يسميه اجتماعا ولقاء، فاستخدام كلمة اختلاط من الأساس تعني أننا وكأننا (في الديسكو) والترابي لا يرى اجتماع الجنسين المطلق بل يأمر بالتمايز في الطرقات والصفوف والمجالس فلا يطلقها، كما أن الترابي يواصل في كتابه فيتحدث عن الخلوة فيوضحها ويسميها فيقول: (فلا يجوز الزنا ولا إفضاء الرجل إلى المرأة كما يقرر القرآن يقول تعالى (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا)، وفي السنة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه سلم لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة ولا يفضي الرجل إلى الرجل في الثوب الواحد ولاتفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد رواه مسلم و ابوداود.

ولا يجوز لرجل أو امرأة أن يخلوا بمعزل عن مرأى الناس، وإن فتنة الجنس لا تغالب، بل تلهي عن كل أغراض الخير التي يلتقي عليها الرجال النساء في جماعة.

ورأى الصديق أن أطروحة الترابي في هذا الصدد تختلف عن النظرة التقليدية لبعض الجماعات عندنا في السودان والتي ترى ان مجرد الوقوف مع المرأة يعتبر حراما غير جائز، بينما الترابي يفهم الخلوة أنها تكون بمعزل عن الناس، فالترابي يرى رأيا واضحا أن المرأة لا تظهر إلا وجهها ويديها فيقول الترابي في الصفحتين الثالثة والرابعة والأربعين من كتابه ولا ينبغي لرجل أو امرأة أن يتكشف في ملبسه عن عورة أو يتعمد فتنة الأخر بمظهر أو حديث أو حركة مغرية. فالترابي يرى رأيا واضحا أن المرأة لا تظهر إلا وجهها و يديها.

ويشير الصديق إلى أن الترابي يرفض أن يعزل النساء عن الرجال في الحياة العامة بل يرى وجوب تعاون الرجال والنساء على البر والتقوى في الحياة العامة فلا عزل بينهم فيقول: "ولا عزل بين النساء والرجال فللمرأة أن تستقبل ضيوف الأسرة وتحدثهم وتخدمهم".

فالترابي لا يرى عزلا بين الرجال والنساء بل يرى تمايزا بينهم وعدم استرسال في النظر يزكي الفتنة والشهوة، ثم يواصل الترابي فيتحدث عن أهلية المرأة السياسية وولوجها في الأمر العام فيقول: "المرأة تشارك في تنصيب القائمين بأمر المجتمع انتخابا ونصحا كما ورد في قصة عمر رضي الله عنه"، كما أن الترابي يرى أن مجالس العمل بين الرجال والنساء في المسجد في عهد النبي كانت مشتركة.

والترابي يواصل في كتابه فيتحدث عن معيار الفتنة ويجعل أمر تجنبها قائما على الفرد ويتحدث عن باب سد الذريعة الذي بسببه منع النساء من ممارسة حقهم في الشورى والإدلاء بالرأي فيقول: "تطبيق معيار الفتنة منوط من الجانب الشخصي بما يجد المرء في نفسه وذلك فرع من تربيته ومغالبته لهواه. وفي الجانب الموضوعي بالأغراض الأخرى التي تعرض في مقابلات الرجال والنساء فتلهيهم عن خواطر الجنس، وببراءة الإطار الذي يقع فيه اللقاء، ومهما كان سد الذرائع فلا يجب أن ينسخ أصل النظام الإسلامي العام الذي يقضي بإشراك الرجال والنساء و اشتراكهم في الحياة العامة بعفة وطهارة. فإن العزلة إن كانت تحمي المرأة من الفتنة فإنها تحرمها من فوائد اجتماع المسلمين وتعاونهم على العلم والعمل الصالح وائتمارهم بالمعروف وتناهيهم عن المنكر واهتمامهم بالأمر العام وتناصرهم على قيام الكيان الاجتماعي.

التفسير الذكوري:

بالنسبة للباحثة في قضايا المرأة والدين الدكتورة ناهد محمد الحسن، فإن خطورة فهم قضايا المرأة في الإسلام تكمن في التفسير الذكوري للنصوص الدينية وجعلها جزءاً من الثقافة الجنسانية وربط للنساء بالغواية والريبة وغيرهما من الشرور، فجردت تلك الأساطير من وثوقيتها الدينية وألحقتها بتراث ذكوري تسرب من الثقافات التي حملته إلى أقلام الفقهاء والمفسرين، وذلك على الرغم من تحررية الدين الإسلامي الأصلية.

 



وفي حديث مع "عربي21" تشير ناهد محمد الحسن إلى أنها أعدت دراسة حول "المرأة والدين" في كتابها الموسوم بـ "حكايتهن.. حكايتي" تعرضت فيه لتاريخ أوضاع المرأة السودانية منذ الحضارة المروية مروراً بالمملكات النوبية ثم الإسلامية في الفونج والفور ثم التركية والمهدية ثم الاحتلال الثنائي البريطاني والمصري، وأيضا درست وضع المرأة في الفكر الإسلامي التقليدي، ووضع المرأة في المدارس الفكرية التجديدية مفصلة لأربعة منها: مدرسة الدكتور حسن الترابي التي اعتبرتها تجديدية سلفية، والإمام الصادق المهدي الذي اعتبرت تجديده وسطياً، والأستاذ محمود محمد طه الذي رأت تجديديته إصلاحية، والأستاذ طه إبراهيم الذي رأت أنه أسهم في حل أزمة العقل العربي المسلم.

وتقول الدكتورة ناهد: إن الممالك الإسلامية في السودان نشأت على طابع صوفي، وإن اطلاعها على الرؤى الإسلامية العامة شرحت بتفصيل ووضوح ضرورة الاهتمام بملف المرأة والدين بنظرة نسوية مؤمنة بقدرات النساء وخطورة ترك عالم الدين للذكور لوحدهم، فمن كنانتهم يطلقون كل سهام تبخيس النساء ويلبسونها قداسة الدين من جهة، ومن جهة أخرى هذا يحرم النساء حقهن في التدين والسمو الروحي ويجعل الدين عالماً للذكور.

خطاب المرأة في الاسلام:

بالنسبة للدكتورة سلمى عبد الجبار المبارك، فإن الإسلام توجه للمرأة بعشرة خطابات: سبعة عامة للإنسان ذكرا كان أم أنثى، وثلاثة للأنثى عموما مهما كانت صفتها (أم، زوجة، أخت، ابنة، عمة، خالة، جارة، زميلة، عابرة للطريق)، واثنين من الثلاثة للمرأة من الزوجة.

 



والدكتورة سلمى هي إبنة الداعية الاسلامي الراحل عبد الجبار المبارك، وترأس حاليا مجلس أمناء مجمع عباد الرحمن الاسلامي التعليمي في الخرطوم، ولديها العديد من الدراسات عن الفكر الاسلامية بخاصة مكانة المرأة في الاسلام، والمرأة في الخطاب الدعوي، إضافة الى اسهامات بارزة في تربية وتعليم المرأة.

ووفقا لحديث أدلت به الدكتورة سلمى لـ "عربي21" فإن الإسلام يلبي كل الاحتياجات الفكرية والنفسية للمرأة مهما كان مستواها التعليمي ومهما كانت بيئتها، فالإسلام يقبل أن يُنزَّل ويطبق في كل البيئات، كما له خاصية نفي خبث العادات والتقاليد البالية، ويزكي ويعلي من شأن الجيد منها. وبهذا يحافظ على الهويات والثقافات المختلفة حتى نرى تنوع الأقاليم الإنسانية في أبهي حلَّة.

وترى أنه من الضروري أن يتغير الخطاب الدعوي بشأن المرأة، حتى تعرف المرأة النموذج الذي يجب أن تكون عليه، لتتعلَّم كيف تسعى لتحقيقه، وأن تفهم أن سعيها في هذه الحياة مختلف عن سعى أخيها الرجل، فالحياة تحتاج لهذا التنوع الوظيفي لتُرْفَدَ بمختلف العطاءات.
 
وترى أن على الخطاب الدعوي مواكبة المرأة وواقعها المتجدد حتى يكون فعلا خارطة الطريق التي تستهدي بها المرأة وهي تعبر الحياة الدنيا وصولاً للدار الآخرة بسلام. فالخطاب غير المسؤول أضاع النساء؛ فضاع الكثير مما كانت ستسهم به المرأة في مجتمعها على كافة الأصعدة، فقد أصبح هناك فهم مستتر داخل عدد من النساء، أنهنَّ لا يصلحن إلا للأمور الهامشية، وأصبح هناك تساؤل، هل حقاً نظرة الإسلام للمرأة بهذه الدونية؟ هل خُلِقْنَا والله غاضب علينا؟ هل خُلِقْنَا لنرتكب المعاصي؟ هل خُلِقْنَا وفي القرب منا مهلكة؟ هل دين الإسلام جاء يخاطب الرجال من دون النساء؟. 

وهنا تشير الدكتورة سلمة إلى أهمية النظر إلى قضايا المرأة على أساس أنها معيار وميزان يقيَّم بناء عليه الإسلام، فقضايا المرأة هي جزء من الخطاب العام للإسلام فلا ينبغي للجزء أن يفارق الكل، وإلا ذمَّ الناس الكلَّ بنقصه الجزئي هذا. فالأمر أمر دعوة لله الذي أنزل لعباده هذا المنهج الراقي الرفيع، فلنكن حريصين ألا تشوِّهَهُ شوائب التنطُّع والغلو والجهل والأهواء.

لكن ما يحتاجه السودان حسب وجهة نظر الدكتور سلمى عبد الجبار المبارك، هو ضبط الخطاب الدعوي بضوابط الخطاب الواعي المتزن المؤثر، وليتم ذلك لابد من العمل المشترك والجاد بين المعاهد والجامعات والمساجد والمسايد الصوفية، والدولة ممثلة في الشئون الدينية والأوقاف والمجتمع ككل، حتى لا يكون الخطاب الإسلامي غير الواعي هو العائق الذي يمنع حركة تمدد الإسلام وانتشاره في كل الأرجاء.