كاترين الثّانية أو كاترين العظيمة أقوى حاكمات
روسيا القيصريّة، والتي إليها يُنسَب العصر الكاترينيّ الذي هو العصر الذّهبي الذي بدأته كاترين بانقلابها على زوجها وخلعه واستلام الحكم، لتُخرج روسيا من ظلمة العصور الوسطى وتبدأ مرحلة من الهيمنة والتّوسّع الذي اصطدم بالجيوش العثمانيّة.
أعلنت كاترين الثّانية سان بطرسبورغ عاصمة لروسيا القيصريّ،ة وبدأت رحلةَ الانفتاح على المكوّنات المسيحيّة الكاثوليكيّة والبروتستانتيّة والتحالف مع الأرثوذوكسيّة التي تحكم روسيا، في محاولةٍ منها لمواجهة المدّ الإسلاميّ الذي تمثّله الدّولة العثمانيّة آنذاك؛ فاختارت التّلاقي والتّحالف مع المسيحيّين الأعداء في مواجهة المسلمين الأشدّ عداوة.
كانت كاترين الثّانية تحمل إرثا كبيرا من الأحقاد الرّوسيّة على الأتراك العثمانيّين الذين لهم تاريخ طويل من المعارك مع القياصرة الرّوس. وقرّرت خوض حربٍ ضروس مع الدّولة العثمانيّة، فاعتدت على بولندا التي كانت تتمتّع بحماية العثمانيين؛ فما كان من العثمانيّين إلّا الردّ على الرّوس الذين كانوا قد أعدّوا للحرب عدّتها وبدأت الحرب القاسية التي تحالف فيها الألمان مع الرّوس ضدّ الدّولة العثمانيّة عام 1768م.
لقد كان اعتداء كاترين الثّانية على بولندا عمليّة لتوريط للعثمانيين في معركة كبيرة؛ مراميها أكبر بكثير من تنازع على النّفوذ في بولندا وحدها.
استطاعت كاترين الثّانيّة بجيوشها وتحالفاتها أن تعيد الاستيلاء على شبه جزيرة القرم وانتزاعها من يد الأتراك، في معارك خسر فيها الأتراك عشرات الالاف من الجنود عام 1771م، كما استطاعت إثارة القلاقل داخل الدّولة العثمانيّة من خلال تحريض المسيحيين على الثّورة والاحتجاج، واستعانت بعلي بك الكبير أحد رجالها من المماليك في مصر ليطعن العثمانيين في ظهرهم؛ ويقوم بانقلاب على السّلطنة ويعزل الوالي وينصّب نفسه قائم مقام على مصر.
وتمّ توقيع معاهدة قاينارجه عام 1774م التي أعلنت انتصارا كبيرا لكاترين الثّانية على الدّولة العثمانيّة، وليتحوّل البحر الأسود على يدها إلى بحر أرثوذوكسي، فلم يستطع السّلطان العثماني مصطفى الثالث العيش بعد ذلّ الهزيمة، فمات قهرا وكمدا بعد فترةٍ قصيرة.
لم يتوقّف جموح الحلم الكاترينيّ عند هذا الحدّ، بل أفصحت مقولتها في الشّهيرة التي كانت تردّدها، وهي "
سوريا الكبرى هي مفتاح البيت الروسي"، عن مشروعها التّوسعيّ الاستعماريّ القادم.
أعلنت كاترين الثّانية حربها على شرق المتوسّط لتحتلّ بيروت وتتوجّه إلى فلسطين؛ تحت عباءة الأرثوذوكسيّة وشعار حماية مسيحيي الشّرق.
استطاعت القوّات الرّوسيّة احتلال أجزاء من سوريا الكبرى، وامتدّ نفوذُها على بيروت وأجزاء من فلسطين لمدة سنتين تقريبا، غير أنّ السّلطان العثماني عبد الحميد الأوّل استطاع أن يقتل حلم كاترين العظيمة في السّيطرة على سوريا الكبرى، وتمكّن من دحر القوّات الرّوسيّة والانتقام التّامّ من جميع من تحالف معها في بلاد الشّام، وجعلهم عبرة لغيرهم من الولايات التي كانت تحاول روسيا القيصريّة التّواصل معها.
زالت روسيا القيصريّة دون أن يتحقّق حلم كاترين العظيمة في السّيطرة على سوريا الكبرى، لكنّ هذا الحلم ما مات عند الرّوس وبقي متوارثا إلى أن أتى
بوتين الذي يحمل في نفسه جينات العظمة والبطش الكاترينيّ.
كما ورث بوتين من كاترين الثّانية أحقادَها على الأتراك الذين يراهم مهدّدين لطموحه في السيّطرة القيصريّة التّامّة على سوريا الكبرى.
بوتين الذي يحتلّ سوريا ويمارسُ ساديّته في الإهانة العلنيّة المستمرّة لرئيسها بشّار الأسد، الذي قبل أن يكون تابعا ذليلا للقيصر الجديد، هو ذاته الذي يرى في
تركيا شوكة في حلق نفوذه الاستعماريّ وطموحاته القيصريّة.
وإنَّ
قصف وقتل العشرات من الجنود الأتراك في سوريا هو جريمة روسيّة، سواء كان القصفُ روسيّا مباشرة أو عبر قوّات بشّار الأسد التي لا تجرؤ على العطاس دون إذن الرّوس.
يحاول بوتين تنفيس الغضب التركيّ وتحاول تركيا تجنّب الحرب المباشرة مع روسيا، ولا يعرف أحدٌ على وجه الدّقّة أين يمكن أن تصل الأمور؛ لكنّ ما نعرفه جيّدا أن بوتين يجدّد عهد كاترين الثّانية في تحالفها مع مختلف الدّول الأوروبيّة وأشباه الحكّام في الدّول العربيّة لتحقيق أغراضه القيصريّة التوسّعيّة في سوريا التي تقف تركيا عائقا في بسط سيطرته التّامة، فتقفُ جراءَ ذلك وحيدة في وجه أعداء صرحاء وأصدقاء كاذبين وحلفاء غادرين؛ وعاصفة هوجاء لا تملكُ فيها تركيا خيارا إلّا أن تواجه ريحها الصّرصر بحنكةٍ، من غير عجز وإقدامٍ من غير اندفاع.