أخبار ثقافية

عن حقّ المرء امتلاك حكايته

إن الانتصار على الأذى، على تاريخ الأذى، يبدأ في استعادة الضحية لسرديتها الخاصة- CC0

"ولم تُسلب منها حياتُها فحسب، وإنما سُلبت منها قصّة حياتها أيضا"، تقولُ آذر نفيسي عن "لوليتا" نابكوف.


لمن لم يقرأ الرواية، لوليتا - واسمها الحقيقي دولوريس هيز - هي طفلة عمرها 12 عاما، يُغرم بها "همبرت همبرت"، أستاذ أدب في منتصف العمر، الذي يصبح زوجا لأمها، ويبدأ في استغلالها جنسيا، من خلال ذلك الفعل الذي يمكننا أن نسمّيه، بأريحية كاملة، اغتصابا.


وكما في أي حالة اضطهاد كلاسيكية، فهي مبررة دائما باسم الحُب: "لوليتا يا ضوء حياتي، أيتها النار المتوقدة في عروقي، لوليتا يا خطيئتي، يا من تهزج روحي باسمك".


إن الصعوبة الحقيقية في حكايا الاضطهاد؛ الجنسي والعاطفي والجسدي أيضا، تكمن في تغلُّب سردية على أخرى. ما الذي ستبدو عليه رواية "لوليتا" حقا لو أن دولوريس كانت هي الساردة؟ إن منح صوت الراوي لـ"همبرت همبرت" يتسق مع أنظمتنا الاجتماعية، التي تكرّس رواية القوي على حساب الضعيف.


يمكن للأمر أن يأخذ أي شكل؛ فهذا الطرف الأقوى قد يكون حكومة، أو مدير مكتب عمالة منزلية، أو رجل دين، أو زوجا يعاشر امرأته قسرا، أو أما تضرب ولدها، أو مديرا متحرّشا، أو مراهقا يلاحق الفتيات بسيارته الفارهة، أو رجل شرطة. أو مواطنا أمام وافِد، أو ربة منزل أمام خادم، أو متخما أمام جائع. ما يشرتك به هؤلاء، في نهاية المطاف، هو أن ميزان القوى في صفهم.


لا أعرفُ أيهما أسوأ، أن تُسلب منك حياتك، أم أن تُسلب منك قصّة حياتك. ولكن الحقيقة أن الاثنين لا ينفصمان عن بعضهما إلا نظريا، فضحايا الاضطهاد، في الغالب، هم أولئك الذين لا يملكون صوتا. لن يصدقهم الآخرون. إنهم أطفال، قُصَّر، نساء "ناقصات عقل ودين"، موظفون في قاع الهرم الإداري، مدنيون وعزّل أمام رشاشات الماء والقنابل المسيلة للدموع. لاجئون، بدون، وافدون..


وبالمثل؛ فإن ضحايا التنمّر في المدارس هم غالبا؛ الطفل الأذكى/ الأغبى. الطفل الأطول/ الأقصر. الطفل الذي يتأتئ، والذي يتبوّل في سريره، والذي يملك هشاشة داخلية تجعله موضوعا ملائما للإيذاء. 


إن الخروج من جغرافيا الاضطهاد يتطلّب قبل كل شيء، أن نمتلك مفاتيح اللغة. أن نسمّي الأمر بتلك الأسماء التي تريدها الضحية؛ اغتصابا وليس معاشرة زوجية. زواج قاصرات وليس زواجا مبكرا. اضطهادا عاطفيا وليس حبا جارفا. تغوّلا للسلطة وليس حماية للمواطنين. عنصرية وليست وطنية. طائفية وليست تديّنا.


فهذه الأنظمة السادية بالغة الدهاء، تعيد ولادة نفسها باستمرار ما دمنا مصادرين في قصّتنا الخاصة.


هذه الأنظمة، تقومُ أصلا، على فكرة التلاعب بالكلمات، فالضرب دائما مشروع باسم الحُب، والإهمال الوالدي مبرر باسم الانشغال، والاغتصاب ليس جريمة بوجود عقد زواج، ومصادرة الأوراق الثبوتية لعاملة منزلية أمرٌ طبيعي من قبيل حماية المصلحة. إننا ندلفُ إلى هذا العالم، بشبكة علاقاته المستحيلة، بمنطق الحرب في جميع الأحوال. حربٌ ضد طفل، وضد حبيبة، وضدّ خادم، وضد لاجئ، وضد..


الأكثر من ذلك، أن ضحايا الاضطهاد يميلون إلى تكذيبِ قصتهم الخاصة، وتصديق سردية الجلّاد. فما دام هذا الشخص يملك مسدسا، فهو يمتلك الحقيقة أيضا. غنية عن القول بأن المسدس هو مجرد استعارة.

 

عندما يحدث ذلك، عندما ننجح في تبنّي الهُراء، في تعطيل حدسنا وملكاتنا العقلية والوجدانية، نضطهدُ أنفسنا أيضا، نتجاهل أنفسنا، حتى لا تعود هناك أنفس فينا. إنه الانتصار الشامل للنظام الفاشي؛ سياسيا واجتماعيا وعلى جميع الأصعدة.


أتذكّر شعوري قبل سنوات وأنا أقرأ  لـ سفيتلانا أليكسييفيتش، الحائزة على نوبل في 2015 عن رواياتها "الوثائقية" التي تألفت من مجموعة من أصوات الضحايا؛ موسيقى الألم المحض، لأطفال الحرب (آخر الشهود)، ونساء الحرب (ليس للحرب وجه أنثوي)، والجنود (فتيان الزنك). كان الشيء المشترك بين صوت وآخر - من بين مشتركات كثيرة - هو أن أغلبهم قالوا لها؛ اكتبي هذا الكلام، اكتبيه كله. أريد للعالم بأن يَعرِف.


إن الانتصار على الأذى، على تاريخ الأذى، يبدأ في استعادة الضحية لسرديتها الخاصة، في أن تقول؛ هذا ما حدث لي. لقد أوذيت. يبدأ التعافي بعد تحسس الجُرح. بعد فحص أغواره وأحراشه. الحشائش النابتة على ضفافه، الحشرات التي تدبٌّ على سطحه. الديدان في أعماقه، وجذوره الضاربة في القلب.


يجبُ أن ننتصر في معركة السرد لكي نستعيد ذواتنا من الاضطهاد ومنطقه البراغماتي. يجب علينا، على غرار آدم بعد الخلق، أن نذهب في رحلة أبدية صوب تسمية الأشياء بأسمائها. نحتاج أن نُسائل اللغة طوال الوقت؛ بتلك الألغام المخفورة في نسيجها، طالما أن الحقيقة الكاملة متعذرة علينا؛ هل أنت في صفّ الضحية، أم الجلاد؟


ويجب أن نتذكر دائما ما قالته توني موريسون في خطابها لنوبل في 1993: "لغة الاضطهاد تصنع أكثر من تقديم العنف؛ إنها عنف في حدّ ذاته. تصنع أكثر من تقديم تجحيم المعرفة؛ إنها تحجّم المعرفة".


ولا يمكن لامرأة جليلة سوداء مشعة مثل توني موريسون، تكتب بحكمة الأشجار الباسقة، وصوت الحكمة الرحيمة،  ألا تعي ذلك على هذا النحو النافذ؛ إن حربنا مع من يسيء استغلال السلطة هي حرب على اللغة، ومعها.


يعشّش نوع من العنف الناعمُ في تلافيف معاملاتنا اليومية. إنه يكمنُ ببساطة في فكرة "المعرفة المسبقة" بالشيء، بالشخص.


مثل أن يأتيك شخص محملا بافتراضات عن حقيقتك، مهما كانت موضوعية وذكية وحتى صحيحة. إن هذا الموقف، موقف العارف، هو النقيض من الموقف المفترض؛ موقف الفضولي، الذي يريد أن يكتشف، ويتعلم. الذي يُفرغ إناءه أمامك ويطلب منك أن تقصّ عليه حكايتك، بصوتك أنت، بكلماتك أنت. أن تسمّي الأشياء بأسمائها، وعلى طريقتك.


يندرُ أن ألتقي في حياتي أشخاصا يبرعون في الإنصات، يشرعون حواسهم أمام حكاية، ثم يبدأون في سد الثغرات بالأسئلة، والفجوات التي تبقى.. ستكون مادة غنية للتخمينات، والحوارات المُشبعة، والتكهنات. إنها المكان الذي تبدأ فيه لعبة التأويل، وكلنا نعرف بأن التأويل شيء، والحقيقة الكاملة شيء آخر.


ما أحاولُ قوله هو أننا نتبنى سياسات اضطهادية من دون أن نشعر، عندما نرفض أن نسمع، عندما نأتي مدججين بالإجابات الجاهزة، عندما نُسقط تكهناتنا على الآخر، ثم نصمُهُ بها.


نحن نتبنى أساليب قمعية ناعمة، عندما نصادر من الآخر حقّه في أن يتلو علينا حكايته بصوته وبكلماته، حتى لو كان ذلك بأكثر الحجج لطفا، مثل أنك.. تعرفُ الحكاية مسبقا.


تحتاج الحكاية إلى طرف ثان، دائما وأبدا، لكي تكون.


فالضحايا محجوبون، والحكاية غير منطوقة، من دون شهود.


والضحية.. للأبد.. تريدك أن تعرف.