قضايا وآراء

هل تمتلك الحكومة التونسية المقترحة فرصة المرور ومقوّمات النجاح؟

1300x600
بصرف النظر عن مزايدات بعض المنظمات الوطنية، مثل الرابطة التونسية لحقوق الإنسان التي طعنت في أهلية وزير الدفاع الجديد بحكم ارتباطه بقضايا إيقاف أنشطة الرابطة عام 2000 وقرار تمكين الهيئة الانقلابية من مقر الهيئة الشرعية سنة 2006، رغم صمت الرابطة السابق عن الأدلة التي تدين رئيس الجمهورية الراحل والعديد من وزرائه، وبصرف النظر كذلك عن ازدواجية مواقف بعض الهيئات الدستورية، مثل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد التي وجّه رئيسها شوقي الطبيب مراسة لرئيس الحكومة المكلف العميد شوقي الطبيب "حول شبهات فساد تحوم حول عدد من المرشحين لحقائب وزارية وكتابات دولة وأن عدد المعنيين بالمراسلة خمسة وزراء" و"وجود 12 شخصية بين وزير وكاتب دولة في الحكومة المقترحة تحوم حولهم شبهات فساد"، رغم صمت الهيئة عن "شبهات الفساد" التي تحوم حول الكثير من رموز الفساد الحزبي والمالي والنقابي المنتمين إلى "العائلة الديمقراطية".. بصرف النظر عن ذلك كله، فإن حكومة السيد الحبيب الجملي تبدو من أكثر الحكومات هشاشة، سواء أتعلق الأمر بالحزام الحزبي اللازم لتشكيلها أم بالسيرة الذاتية للمنتمين إليها (وأغلبهم الأعم لا علاقة لهم بالثورة واستحقاقاتها)، وقدرتهم المشكوك فيها على التعامل مع الأزمة الحادة التي تعيشها البلاد في مختلف المجالات.

ينطلق هذا المقال من فرضية أساسية، وهي أن الأزمة السياسية الحالية تجد جذورها في أكثر من موضع. فهي نتيجة خيارات سابقة ترجع إلى سنة 2011 ويتحمل مسؤوليتها أكثر من طرف يمينا ويسارا. ولكننا نرى أن العامل التكويني الرئيس للأزمة هو الرهانات الداخلية لحركة النهضة، تلك الرهانات المرتبطة بالمؤتمر القادم للحركة الذي قد يشهد انقلابا ناعما على قانونها الداخلي بالتمديد لرئيسها الحالي الأستاذ راشد الغنوشي. فاختيار السيد الحبيب الجملي لم يكن بعيدا عن تلك الرهانات، بل كان جزءا من آليات إداراتها وتصريفها خارج الفضاء الحزبي. فالمنطق يقول إن تشكيل "حكومة سياسية" تجمع الأحزاب المحسوبة على الثورة بهدف محاربة الفساد يفترضُ تكليف شخصية سياسية وازنة داخل حركة النهضة. ولكنّ الحسابات السياسية لرئيس الحركة ولمجلس الشورى أقصت القيادات التاريخية للحركة (بدعوى الاستجابة لمطلب استقلالية رئيس الحكومة، وهي في الحقيقة تهدف إلى إضعاف مواقفهم التفاوضية خلال المؤتمر القادم) وجاءت بالسيد الحبيب الجملي الذي كان هو نفسه جزءا من نصيب حركة النهضة داخل الفريق الحكومي زمن الترويكا (اشتغل كاتب دولة لدى وزير الفلاحة)!

ولم تكن المشاورات مع "القوى الثورية" حول تشكيل الحكومة إلا تعميقا لهذا الخطأ الأصلي، وإن كان من الحيف حصر فشل المفاوضات في هذا "الخطأ" وإهمال جملة من العوامل التي دفعت به إلى نهاياته العبثية. فشركاء حركة النهضة أيضا لم يكونوا بعيدين عن منطق "الإقصاء الناعم" القائم على انعدام الثقة في النهضويين ككل ودون تخصيص، وكذلك لم يكونوا غرباء عن الاستقواء على حركة النهضة بالواقع الإقليمي والدولي الذي ما زال يتوجس خيفة من تصدر الحركات الإسلامية لواجهة السلطة. كما أنّ بعض شركاء النهضة في القوى المحسوبة على الثورة لم يخف ميله إلى "حكومة الرئيس" وتمايزه المطلق عن "ائتلاف الكرامة"، دون أن تظهر خطاباته تمايزا مشابها عن "حركة تحيا تونس" المحسوبة على النظام القديم. ولو أردنا التبسيط لقلنا إن المفاوضات بين "القوى الثورية" كانت تحمل بذور فشلها لأسباب أيديولوجية وسياسية ظهرت في المواقف المتباينة من أغلب الملفات العالقة، كالموقف من الاتحاد العام التونسي للشغل أو من القضايا الإقليمية، أو حتى من طبيعة المجتمع التونسي ذاته وأسس بناء المشترك الوطني فيه.

لم يكن توجّه السيد الحبيب الجملي إلى حكومة "الكفاءات المستقلة" (وهي التي يفترض فيها أن تكون حكومة وحدة وطنية ذات حزام حزبي كبير) إلا تعبيرا عن فشل "الحكومة السياسية". ونحن نذهب (على عكس الكثيرين) إلى أن السيد الحبيب الجملي لم يسئ قراءة بيان حركة النهضة الداعي إلى تشكيل حكومة كفاءات سياسية مستقلة، بل فعّل هذا المقترح، ولكنه ذهب به (لأسباب تتعلق برغبته في بيان الاستقلالية، أو لأسباب تتعلق بتموقع معين داخل مراكز القوى في حركة النهضة) إلى خيارات غير متوقعة جعلته يدخل في صراع حتى مع الحزب الذي كلفه بتشكيل الحكومة. فرغم أنه لا معنى لحكومة "كفاءات سياسية مستقلة" إلا توزير شخصيات حزبية (لن تنتمي بالضرورة إلى التيار أو حركة الشعب بعد فشل المفاوضات معهما)، وهو ما يعني أنها ستكون قريبة من أحزاب المنظومة القديمة بالضرورة.

ولكنّ الأسماء التي اختارها السيد الحبيب الجملي ضربته وضربت الحركة التي كلفته في مقتل، وجعلت النهضة في حرج سياسي كبير، وهو حرج لم تذهب النهضة في التعبير عنه إلى حد سحب التكليف أو إعلان عدم تصويتها للحكومة. ورغم تعهد السيد الحبيب الجملي بتشكيل حكومة كفاءات مستقلة، فإن أغلب وزرائه وكتاب الدولة في حكومته لا يمكن أن يكونوا مصداقا للكفاءة (بحكم تعيينهم خارج تخصصاتهم وبحكم الشبهات التي تحوم حولهم)، ولا مصداقا للاستقلالية (بحكم قرب أغلبهم لحزب قلب تونس أو حركة النهضة). وهي وضعية تضعف إمكانية تمرير هذه الحكومة، أو على الأقل تجعلها حكومة هشة وغير قادرة على إدارة الشأن العام بما يتطلبه من كفاءة واستقلالية حقيقيين.

منذ اقترابه من حزب قلب تونس للوصول إلى رئاسة البرلمان، يبدو أن الأستاذ راشد الغنوشي قد اختار (رغم تصريحه بتوازي مساري التحالفات البرلمانية والمفاوضات الحكومة) أن يحمل البلاد إلى "اللحظة التوافقية 2"، وهي لحظة لن تستطيع أن تختلف عن اللحظة التوافقية الأولى مع حركة نداء تونس إلا في مستوى مكوناتها، لا في مستوى خياراتها وسياساتها العامة. وهو ما يعني أن التحالف مع ورثة المنظومة القديمة هو الخيار الاستراتيجي الأهم في حركة النهضة (أو على الأقل عند رئيسها والفريق المحسوب عليه)، ولم يكن الانفتاح على "القوى الثورية" إلا خيارا سياسيا تكتيكيا بين معقفين.

ولكنّ ما غاب عن رئيس حركة النهضة ورئيس البرلمان هو أن "التكتيك" قد ينقلب أحيانا على صاحبه، خاصةً إذا ما كانت المصالح الموضوعية بين "القوى الثورية" و"المنظومة القديمة" (بل البنية العميقة للعقل السياسي عندهم جميعا) متوحّدة حول هدف استراتيجي هو إزاحة حركة النهضة عن رئاسة الحكومة، بصرف النظر عن الأنساق الحجاجية المعتمدة في ذلك. وهو ما يعني أن حكومة السيد الجملي على افتراض تمريرها يوم الجمعة (10 كانون الثاني/ يناير 2020) في الجلسة العامة للبرلمان ستكون حكومة مؤقتة وهشة، ولن يكون سقفها إلا إدارة الأزمة وإعادة إنتاجها بصورة أكثر حدة. ولن نجد دليلا على تهافت المنطق السياسي الذي شكلها أعظم من تصريح رئيسها المكلف بأنه يتعهد بتغيير بعض الأسماء في صورة موافقة البرلمان على الحكومة كما هي، دون أن يرى في ذلك أي حرج سياسي ولا أخلاقي يوجب تنحّيه وردّ التكليف!