شهدت
إيران خلال الأسبوع الماضي؛
احتجاجات، كان
العنوان الأبرز لها قرار الحكومة رفع سعر البنزين إلى ثلاثة أضعاف السعر السابق.
تعددت القراءات حول الاعتراضات في الشارع وتباينت
الآراء باختلاف دوافع أصحابها بين معارض ومؤيد، وقلما وجدت قراءة موضوعية وحيادية.
ولا أدعي أن المهمة سهلة في تحليل ما حصل، وإنما هي محاولة لقراءة المشهد عن قرب.
باستعراض التاريخ الحديث للثورة الإسلامية في إيران،
يمكن استخلاص المحطات والعناوين التالية:
- تعد هذه الاحتجاجات الأوسع منذ قيام الثورة
الإسلامية عام 1979، وفي الوقت نفسه، هي الأعنف أيضا، حيث تخللتها عمليات تخريب
وعنف واسعة وغير مسبوقة. وتشير بعض التقارير إلى إحراق نحو 900 بنك في أنحاء
البلاد.
- يستطيع المراقب أن يلحظ جهوزية الأجهزة الأمنية لمواجهة
مثل هذه الأحداث، حيث استطاعت قوى الأمن أن تحتوي الأحداث خلال يومين فقط، وأن
يعود الهدوء مرة أخرى.
- يعد الإعلام الجديد مكونا ولاعبا جديدا، لذلك تأخرت
عودة خدمة الإنترنت إلى أسبوع منذ أن بدأ الأحداث وحتى هدوئها. حيث كانت ذروة
الاحتجاجات يوم السبت السادس عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر، أي بعد يوم من تطبيق
خطة ترشيد استهلاك البنزين.
- شهدت إيران خلال العقود الماضية بعد الثورة؛
احتجاجات شبيهة نسبيا بمعدل موجة كل عشر سنوات، تنوع طابعها بين ما هو طلابي أو
اجتماعي أو سياسي أو نقابي، وأحيانا حملت بعضها معظم تلك الملامح معا في آن واحد.
- كان أشهر الاحتجاجات، تلك التظاهرات السياسية
للتيار الإصلاحي عام 2009، احتجاجا على نتائج الانتخابات الرئاسية، لكنها اتخذت
خلال العامين الأخيرين طابعا اقتصاديا بامتياز، لتصبح احتجاجات مطلبية، رغم تخللها
بشعارات سياسية أحيانا.
- يلاحظ كذلك أن هذه الاحتجاجات لا رأس لها وهي غير
حزبية، تنطلق من دون أن تدعو لها تشكيلات أو منظمات سياسية، وتشارك فيها الطبقات
الضعيفة وأحيانا المتوسطة في المجتمع الإيراني؛ التي تمثل الشريحة الأكثر تضررا من
تردي الوضع الاقتصادي خلال السنوات الأخيرة.
وعليه يشكل العنوان الاقتصادي المحرك الأبرز لمثل هذه
الشرائح بل ويتناسب مع الظروف الصعبة التي يمر بها الشعب الإيراني تحت الحصار
اقتصاديا، لكون الاقتصاد وما يتربط به من قرارات يمس حياة الجميع دون استثناء، وهي
الثانية من نوعها بعد تظاهرات اقتصادية مماثلة خلال كانون الأول/ ديسمبر 2017.
- يمكن القول إن ارتفاع سعر البنزين بنسبة ثلاثة
أضعاف، قد أشعل شرارة الاحتجاجات، في المقابل فإن ثمة عوامل متراكمة يشكل فيها
الوقود قمة جبل الجليد الذي يخفي أسفله عوامل عدة، وسط مخاوف جدية من أن ذلك ينسحب
وبشكل تلقائي على بقية السلع والخدمات في إيران، وذلك على ضوء تجارب مريرة سابقة،
إذ أعقب كل زيادة في
أسعار المحروقات والوقود، ارتفاع كبير في كافة الأسعار.
كما أن ما زاد من غضب الشارع الإيراني هذه المرة، هو
الطبيعة المفاجئة لإعلان حكومة الرئيس روحاني عن قرار زيادة أسعار البنزين، دون أي
تحضير للرأي العام، وسط نفي مسبق صدر عن بعض المسؤولين لوجود أي نية في هذا الصدد،
لينصدم الإيرانيون يوم الخميس ليلا برفع سعر البنزين بهذا الشكل، ودخوله حيز
التنفيذ مع الساعة الأولى من فجر الجمعة.
من جهة أخرى، فإن الحكومة الإيرانية، على الرغم من
اضطرارها اللجوء إلى هذه الخطوة الاقتصادية الإصلاحية التي لطالما دعت إليها
مؤسسات مالية دولية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي الدول، كتحرير أسعار
المحروقات، إلا أنها أخفقت في الإخراج واختيار التوقيت المناسب، اذ أنها جاءت
بطريقة مفاجئة جدا وفي وقت، فاقمت فيه الظروف القاهرة للحالة المعيشية للمواطن
الإيراني نتيجة التراجع الحاد في قوته الشرائية، والذي يعود في نسبة كبيرة إلى
العقوبات الأمريكية، فضلا عن مشاكل بنيوية يعاني منها الاقتصاد الإيراني، عقّدتها
الحرب الاقتصادية الأمريكية على البلاد، وتحول دون معالجتها جذريا.
المفارقة هنا أن إعلان الحكومة دفع كل العوائد التي
ستجنيها من ارتفاع أسعار البنزين لـ60 مليون إيراني، لم يمنع الشارع من التعبير عن
احتجاجه، وذلك بسبب تراجع ثقته بالحكومة ووعودها الاقتصادية غير المنجزة على مدى
السنوات الماضية.
أما بالنسبة لاحتواء الاحتجاجات بشكل سريع على الرغم
من نطاقها الواسع جغرافيا، فلعل المراقب يستغرب من ذلك، خاصة ان البعض استحضر من
اليوم الأول ما يجري في محيط إيران من تظاهرات مستمرة في العراق وفي لبنان،
ليطلقوا عنان التفسيرات والذهاب بعيدا في قراءة الأوضاع والتوقعات بشأن مآلاتها،
إلا أن ثمة عوامل مجتمعة ساهمت في احتواء الموقف بشكل سريع جدا، يرجع جلها إلى
خطورة المرحلة التي تمر بها إيران ومحيطها الإقليمي، واشتراك هذه القراءة بين
الأطياف المختلفة في صناعة القرار في إيران مع الكثير من النخب التي قد تختلف حتى
مع أداء حكومتها. وذلك على ضوء المعركة الولايات المتحدة الأمريكية على إيران
ودخول الصراع معها في أخطر مراحله إثر سياسة الضغوط القصوى الأمريكية، تقول طهران
إن الهدف منها هو تأليب الشارع الإيراني على النظام، أو من ناحية البيئة المضطربة
المحيطة بإيران، على وقع الأزمات الإقليمية المركبة والتظاهرات المستمرة في بعض
الساحات.
انطلاقا من كل هذه الاعتبارات، وجدت الدولة الإيرانية
ضرورة احتواء الموقف بأسرع ما يمكن، للحيلولة دون الدخول في دوامة مجهولة داخليا،
كان من شأنها أن يقزم دورها الخارجي ويضعفها في المواجهة الراهنة مع واشنطن
وحلفائها عند لحظة تاريخية فاصلة. لذلك تعاملت إيران مع الموقف واحتواءه من
خلال ثلاثة أدوات محكمة، أمنيا واقتصاديا وتقنيا. فعلى الصعيد الأمني من خلال
التعامل الأمني السريع مع الحدث، واقتصاديا من خلال البدء سريعا بدفع مساعدات
نقدية للمواطنين، وتقنيا عبر قطع الإنترنت عن البلاد في خطوة غير مسبوقة.
بالإضافة إلى ذلك، وبعدما بدأت تتخلل الاحتجاجات
عمليات عنف وتخريب شديدة من يومها الأول، طاولت الممتلكات العامة والخاصة، انسحب
معظم المحتجين عن الساحات وامتنع آخرون من الانخراط فيها، مستحضرين المأساة التي
لحقت بدول في المنطقة وفي مقدمتها سوريا.
وأخيرا، ما يمكن قوله إن انتهاء الاحتجاجات المطلبية
في إيران لا يعني انتفاء الأسباب التي فجّرتها، فما دامت هذه الأسباب قائمة، تبقى
احتمالات اندلاعها مجددا قائمة أيضا، ومعالجة الأسباب على ضوء قناعة إيرانية بأنه
لا حل في الأفق متوقع، إما لرفع العقوبات الأمريكية أو إمكانية التعامل السحري مع
ما ترتب على هذه العقوبات الخانقة، مما يستدعي البحث عن حلول داخلية حقيقية على
مختلف الأصعدة، وخاصة في مواجهة الخلل البنيوي للاقتصاد وتقويمه أمام المؤثرات
الخارجية، وتكثيف مكافحة حالات الفساد المالي والإداري، التي باتت من جهة تزعج المواطن
الإيراني، ومن جهة أخرى، تثقل كاهل الاقتصاد الإيراني في ظل استفحال الضغوط
الاقتصادية الأمريكية.