كتاب عربي 21

تركيا في سوريا.. عن فصائل فلسطينية والأمن القومي العربي!

1300x600
بغضّ النظر عمّا يمكن قوله في تفسير موقف عدد من الفصائل الفلسطينية التي هاجمت التدخل التركي في شمال سوريا ووصفته بالغزو، فإنّه قد يكون من المفيد الوقوف عند التناقضات العميقة لدى بعض أصحاب ذلك الموقف، كما هو لدى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وهي واحدة من الفصائل الفلسطينية التاريخية، ذات الحضور الواضح في تاريخ الثورة الفلسطينية، والتي، وإن تراجع حضورها حجما وتأثيرا كما هو شأن عموم فصائل اليسار، فإنّها ظلّت من بين هذا اليسار الأكثر قدرة على محاولة الفعل، ولا سيما في ميدان مقاومة الاحتلال.

دعت الجبهةُ الشعبية الجامعةَ العربية لاتخاذ موقف مما أسمته الغزو التركي، من منطلق ما يشكّله "هذا الغزو" "من تهديد للأمن القومي العربي"، لا من منطلق العلاقات السلبية لبعض الدول مع تركيا، مذكّرة الجامعة العربية بما عدّته الجبهة خطيئة حينما علّقت عضوية سوريا في الجامعة، ونسّقت مع تركيا وغيرها من الدول "لتنفيذ مخططات تدمير الدولة السورية"، على حدّ قول الجبهة.

التناقض الداخلي في خطاب الشعبية واضح لأوّل وهلة، فالذين تقول إنّهم نفّذوا مخطّطات تدمير الدولة السورية بالتعاون مع تركيا وغيرها، تدعوهم الآن لحماية الأمن القوم العربي، وهذا يعني بداهة أنّ الجبهة التي تبنّت نمطا من الخطاب الثوري في النصف الثاني من القرن الماضي، يدعو لتغيير الأنظمة العربية، لم تعد تتبنّى الموقف نفسه من أنظمة تقول الجبهة إنّها سعت لتدمير دول عربيّة بالتعاون مع دول أجنبيّة. لكن الموقف الأكثر جذرية وصلابة في موقف الجبهة هو ذلك المناصر للنظام السوري، والمعادي لتركيا، هذا بالرغم من كون حال النظام العربي الذي أرادت الجبهة تغييره في القرن الماضي؛ أفضل نسبيّا من حال النظام العربي الآن، المنجرف نحو التصهين، والساعي في تصفية القضية الفلسطينية صراحة، وهي في الوقت نفسه، تعوّل عليه لحماية الأمن القومي العربي!

هذا التناقض الفجّ لا يعني سوى أنّ الجبهة تنطلق من غرائز أيديولوجية كامنة، ومن دوافع مصلحيّة هشّة، ولذلك فالنظام الرسمي العربي، الذي سعى في تدمير سوريا كما تقول، لا بأس في مخاطبته بهذه اللغة التي تتوخّى منه حماية الأمن القومي العربي، طالما أنّ هذا النظام يعادي في هذه اللحظة التاريخية ما يُدعى بالإسلام السياسي، الذي يمكن ملاحظة أنّ الإرث الأيديولوجي تجاهه لم يزل يُسكر رؤوس بعض القوى اليسارية. وحزب أردوغان محسوب بشكل أو بآخر على هذا التيار، فيمكن الاجتماع في معاداته لحماية الأمن القومي العربي مع من يسعون في تدمير سوريا. هل يمكن للمرء أن يقع على تناقض أكثر فُحشا من هذا؟!

يُذكّرنا ذلك بالبيان الذي أصدرته الجبهة الشعبية في آب/ أغسطس 2015، وتوجهت فيه "إلى الشعب المصري الشقيق وقيادته بخالص التهاني والتبريكات على الإنجاز التاريخي بافتتاح قناة السويس الجديدة". كانت الجبهة تؤمّل في ذلك البيان، من مقترف مذبحة رابعة، ومحاصر المقاومة في غزّة، وبهجة "إسرائيل" وفرحتها، عبد الفتاح السيسي؛ أن يقود "قاطرة لمشاريع إستراتيجية تؤسس لبنية صناعية واقتصادية راسخة تُحرّر مصر واقتصادها من التبعية للرأسمال العالمي ومؤسساته المتوحشة"، ولم يغب عن الجبهة في ذلك البيان ذكر المصالح القومية العربية، وفي القلب منها مصلحة الشعب الفلسطيني، والثناء على الإرادة التي تملكها القيادة المصرية التي حقّقت هذا "الإنجاز" في وقت قياسي وظروف مجافية!

يمكن لنا أن نتساءل، وبمعزل عن تعظيم حفر تفريعة القناة التي لم تثبت لها من فائدة سوى تعزيز الموانع المائية بين الجبهة الغربية و"إسرائيل" لصالح الأخيرة طبعا.. كيف يَعمى فصيل فلسطيني عن ملاحظة العداء السافر الذي أبداه السيسي للمقاومة الفلسطينية، ولا سيما في حرب العام 2014؟ وكيف يَعمى عن الابتهاج الإسرائيلي العارم بالرجل وانقلابه؟ وكيف أنّه لا يلاحظ تسليمه بلده ومقدّراته للرأسمالية المتوحشة، ولداعميه الخليجيين الذين هم في حكم تعريفات اليسار الفلسطيني التاريخية، قوى الرجعية والعمالة للاستعمار؟ والذين كانوا بحسب تصورات الشعبية قد سعوا إلى تدمير الدولة السورية! الحقيقة أنّ هذا خليط من العمى والجهالة والتناقض المُعجِز!

فلو كانت مواقف الشعبية الداعمة للنظام السوري وحلفائه مستندة إلى دعاية المقاومة، فما هي دوافع دعمها للسيسي في ذلك الوقت، رغم مرور زمن كافٍ لفضح حقيقته وسياساته واتجاهاته وارتباطاته المريبة؟! أم هو الغرام بالبوط العسكري، والانصهار مع كلّ حالة يُسحق فيها الإسلاميون؟! فعدوّ الإسلاميين بالضرورة أبو المقاومة، حتّى وهو يحاصرها، وحامي القوميّة العربية، حتّى وهو ينبثق عن حِجْر "إسرائيل"!

لا يمكن أن يدعم هذا القدر المغرق في تناقضاته مصداقية المواقف التي تحتمي بشعارات المقاومة والقومية العربية، إذ لا يمكن لعاقل أن يبحث عن حماية الأمن القومي العربي لدى قادة التطبيع وتصفية القضية الفلسطينية وبيع الكرامة العربية لكوشنير ونتنياهو، وإنما هي غرائز أيديولوجية، ونزعات نفسية، وتوهّمات مصلحية ضيقة!