قضايا وآراء

حقائق وأقاويل حول عملية "نبع السلام"

1300x600
بينما قسمت العملية العسكرية التركية نبع السلام السوريين ما بين مؤيد ومعارض، متفائل ومتشائم، فإنها لم تكن مفاجأة لأي من الطرفين، فالتصريحات والاستعدادات كانت تؤشر على حتمية وقوع العملية، مع التساؤل عن توقيتها ومدى توغلها ونتائجها على المدى القريب والبعيد.

هناك الكثير مما نُشِرَ وقيل عن العملية، سواء من الناحية الإخبارية أو التحليلية، بما في ذلك كمّ كبير من الشائعات والمعلومات الخاطئة. فلعلنا نستعرض بعضها هنا ونوضحها بشكل مختصر.

1- أردوغان قام بالعملية للهروب من أزماته الداخلية، بما في ذلك الانشقاقات ضمن حزبه: هذا افتراض خاطئ، فالعملية عليها إجماع سياسي تركي، بما في ذلك الأحزاب المعارضة، كما أنه بُدِئ الحديث عنها منذ زمن طويل، وكانت مجال أخذ وردّ بين الحكومتين التركية والأمريكية، ولطالما اشتكت تركيا من مراوغة ومماطلة الحكومة الأمريكية في هذا الموضوع، رغم موافقتها على المبدأ مبكرا. أضف إلى ذلك أن أردوغان لا يواجه أزمة على المدى القريب، فلن تجري أي انتخابات في تركيا حتى عام 2023، إلا إذا حصلت انتخابات مبكرة، وهو احتمال ضعيف جدا ولا تظهر بوادره الآن.

2- تركيا تهدف إلى احتلال جزء من أرض سوريا ونهب مواردها الطبيعية: افتراض خاطئ أيضا، فتركيا أعلنت مرارا أنها لا تملك أي أطماع في الأراضي السورية، وأنها تريد للسوريين أن يديروا شؤونهم بأنفسهم وقد ساعدتهم السلطات التركية على ذلك في مناطق درع الفرات وغصن الزيتون بعفرين التي دخلها الجيش التركي سابقا. هذه العمليات مكلفة لتركيا ماليا وبشريا، ولكنها تشعر أنها مضطرة لخوضها لتأمين حدودها الجنوبية من هجمات تنظيم حزب العمال الكردستاني (PKK) الإرهابي وتفرعاته في الأراضي السورية: وحدات حماية الشعب وقوات سوريا الديمقراطية.

الكلفة التي تدفعها تركيا تشمل العملية العسكرية، ثم إعادة تأهيل المنطقة ومساعدة الأهالي في إدارة شؤون حياتهم بشكل منظم ومناسب.

في الواقع، مشكلة تركيا مع تنظيم "PKK" قديمة، وقد وقعت الحكومتان التركية والسورية على اتفاقية أضنة عام 1998، التي تتعهد فيها الحكومة السورية بعدم السماح لذلك التنظيم بالانطلاق من الأراضي السورية، بل وتنصّ الاتفاقية على إعطاء تركيا حق "ملاحقة الإرهابيين" في الداخل السوري حتى عمق خمسة كيلومترات، و"اتخاذ التدابير الأمنية اللازمة إذا تعرض أمنها القومي للخطر".

الاحتلال الحقيقي هو ظلم الناس ومصادرة حرياتهم وإذلالهم والتضييق على سبل معيشتهم، بغض النظر عن هوية الظالم والمظلوم.

3- للأكراد الحق في وطن قومي: لطالما سمعنا هذه الجملة منذ سنوات، ولطالما أثبتت الدولة القومية فشلها في إقامة مجتمع متعدد حضاري. ربما كان هناك مبرر لهذه الجملة حين كانت الدول المحيطة بهم (تركيا- سوريا- العراق- إيران) محكومة على أساس قومي، لكن الحكم القومي تهاوى وانتهى في تلك الدول، وقد حصل تطور إيجابي كبير في وضع الأكراد في تركيا منذ تولي حزب العدالة والتنمية الحكم.

في الواقع، عدد النواب الأكراد المنضوين تحت حزب العدالة والتنمية أكبر من عدد النواب التابعين لحزب الشعوب الديمقراطي الذي يزعم تمثيل الأكراد. إقامة وطن قومي لن يؤدي إلى الاستقرار في ذلك الوطن، ليس فقط لاحتمال النزاعات مع المكونات الأخرى، بل لاحتمالات النزاعات الأيديولوجية والعشائرية ضمن القومية الواحدة، كما جرى في الماضي في المعارك الطاحنة بين حزبي البارزاني والطالباني، وكذلك المعارك بين بعض التنظيمات الإسلامية وأخرى يسارية أو علمانية.

4- تركيا تحارب الأكراد في عملية نبع السلام: من الضروري تأكيد خطأ هذه الجملة، فالأكراد جزء من النسيج التركي وهم ممثلون في كل المؤسسات وعلى كل المستويات، ولكن تركيا تحارب تنظيمات إرهابية قامت بعمليات قتل وإرهاب لآلاف من المدنيين، بل إن معظم ضحاياهم هم من الأكراد أنفسهم. تجدر الإشارة هنا إلى أن هناك الكثير من المقاتلين الأكراد بين الجيش التركي والجيش الوطني السوري اللذين يقومان بهذه العملية.

5- نتمنى أن يتابع الجيش التركي هجومه لأكثر من الشريط الحدودي: هذه أيضا جملة خاطئة بل غير واقعية؛ تأتي من الكثير من السوريين الذين ذاقوا ويلات نظام الأسد وأحلافه، لكن الواقع أن تركيا لن تقوم بذلك ولا تستطيع القيام بذلك لأسباب كثيرة؛ أهمها أن القانون الدولي لا يعطيها الحق بذلك.

أما قضية الشريط الحدودي فهي مسألة أمن قومي لها. تركيا أعلنت عن هدف العملية، وهو توفير منطقة آمنة على الشريط الحدودي فحسب، وقد التزمت تركيا بوعودها في العمليات السابقة.

6- الجيش التركي هو من يقوم بالعملية العسكرية: هذه الجملة نصف صحيحة؛ فالجيش التركي يقود العملية دون شك، ولكن يؤازره جيش وطني سوري تشكل من اندماج عدد من فصائل المعارضة، وهذه بادرة إيجابية بعد التشرذم.

7- العملية العسكرية التركية ستؤدي إلى تقسيم سوريا: سوريا قد تم تقسيمها عمليا إلى عدة مناطق: تلك التي يسيطر عليها نظام أسد، وأخرى تسيطر عليها تنظيمات قسد والمعارضة وهيئة تحرير الشام. بل إن مناطق نظام أسد تقاسمها الروس والإيرانيون. تركيا ستسلم المنطقة بعد انتهاء العملية العسكرية للإدارة المدنية للمعارضة السورية، وهي حريصة على وحدة الأراضي السورية، بينما كانت قسد ترفع علمها وتمنع رفع علم الثورة السورية.

8- الجيش التركي يقتل المدنيين الأبرياء ويهجّرهم من مساكنهم: في الواقع العكس هو الصحيح؛ فالتنظيمات الإرهابية كانت تعيث في الأرض فسادا، وتقتل وتسجن من يعارضها، وتسوق الشباب والشابات إلى التجنيد قسرا، وتمارس التطهير العرقي ضد المكونات الأخرى، بل ضد من يعارضها من الأكراد. وقد هرب الآلاف من الإخوة الأكراد السوريين إلى كردستان العراق بعد سيطرة قسد على بلداتهم. هناك فرق كبير بين جيش دولة منضبط كالجيش التركي؛ وعصابات إرهابية لا تنضبط بقانون أو دين أو رادع أخلاقي. في الواقع، فقد كان رد قسد على هجوم الجيش التركي بقصف قرية أقجة قلعة، مما أدى لمقتل وجرح العديد من المدنيين.

9- تركيا تبحث عن مصلحتها: هذه الجملة تضحكني لأنها (حين تقال في سياق الانتقاد) تدل على سذاجة شديدة لقائلها. من الطبيعي والمتوقع أن تسعى تركيا لتحقيق مصلحتها وأمنها القومي، وهذا ما تفعله كل الدول والقوى الأخرى. لكن السؤال: هل تقوم بذلك على حساب حقوق الآخرين؟ لا أعتقد ذلك، ومن يزعم ذلك عليه أن يأتي بالدليل.

من الطبيعي والمطلوب أيضا للمعارضة السورية أن تسعى لتحقيق مصلحتها من خلال التقاء المصالح مع الآخرين ومنهم تركيا. السياسة فن الممكن، وحين تتوافق مصلحة الثورة السورية مع مصلحة دولة قوية، يكون ذلك مكسبا لنا يجب استثماره قدر الإمكان. تركيا جار كبير وقوي، وعلاقتنا مع هذا الجار ستبقى لسنين طويلة. لذلك؛ فمن مصلحتنا توحيد الرؤى والعمل المشترك قدر الإمكان. هذا لا يعني التبعية الكاملة لتركيا، بل لا بد من استقلالية القرار السوري.

10- تركيا تهدف إلى التخلص من اللاجئين السوريين على أرضها بنقلهم إلى تلك المنطقة الآمنة: هذه الجملة أيضا نصف صحيحة، فهناك أربعة ملايين سوري يعيشون في تركيا، وكثير منهم يتمنون العودة إلى بلادهم حين تتوفر أسس العيش الكريم؛ من أمن وحرية وظروف العمل، وهذا ما تسعى تركيا لتوفيره في الشمال السوري. وقد أعلنت تركيا مرارا أنها ستشجع من يريد العودة من السوريين وتعينه على ذلك، ولكنها لن تجبر أحدا على الرحيل من تركيا.. اللهم إلا من يخالف القوانين منهم.

11- تركيا توافقت مع روسيا وأمريكا للحصول على موافقتهم لتنفيذ العملية العسكرية: هذا صحيح ولا يمكن لتركيا أن تقدم على خطة كبيرة مثل عملية نبع السلام من دون التوافق مع روسيا وأمريكا. القضية ليست مشاعر ضد هذه أو تلك، بل واقع عملي يفرض نفسه. والسياسة كما أسلفنا هي فن الممكن، وهذا يتطلب المناورة مع الأطراف الفاعلة الأخرى لتحقيق وضع يرضي الجميع.

12- ستؤدي العملية إلى إعادة الحياة لتنظيم داعش وفرار الآلاف من سجنائهم: تركيا عانت الكثير من إرهاب داعش الذي وصل وانتشر في المنطقة تحت نظر الأنظمة الغربية، التي حاولت التنصل من مسؤوليتها عن وصول رعاياها إلى سوريا، بل وصلت الوقاحة في بعض الحكومات إلى توجيه اللوم لتركيا في وصول تلك العناصر. تركيا حريصة على إنهاء أي وجود لتنظيم داعش، فهو خطر على أمن تركيا وسوريا والمنطقة بأسرها.

وقد سبق أن أعلن الرئيس الأمريكي ترامب في تصريحه الذي أعلن فيه موافقته على العملية العسكرية التركية، أن دول أوروبا رفضت إرجاع مواطنيها المنتمين إلى داعش، وأن تركيا وافقت على تحمل مسؤوليتهم. أما قضية فرار الآلاف من سجناء داعش، فإن حصلت فستكون على يد تنظيم قسد وأخواته انتقاما من تركيا.

13- إسرائيل صديق للشعب الكردي: ساذج من يصدق هذه المقولة، فإسرائيل تزعم ذلك لأنها تريد أن تغرز خنجرا في ظهر الدول التي تراها تشكل تهديدا لها، وهذه التنظيمات الإرهابية هي خير من يمثل هذا الخنجر، فلا يظن "PKK" وتفرعاته أنهم أصدقاء لإسرائيل، بل هم أداة بيدها تستعملها حين تحتاجها ثم ترميها وتتخلص منها حين تنتهي الحاجة منها.

أخيرا أقول: الشعب الكردي شعب مسلم أصيل، وهو منا ونحن منه، وأتمنى أن يهيئ الله له ولنا قيادات مخلصة واعية، تدرك أن مصلحته في توافقه مع أشقائه العرب والأتراك، فهم نسيج واحد لا يمكن فكاكه أو نقضه، مع ضرورة الالتفات إلى معاناته ومظلوميته التاريخية، وتحقيق مطالبهم العادلة في إطار العدل والمساواة في الحقوق والواجبات.