قضايا وآراء

بين التعلم من أسباب الهزيمة واستثمار ثمار الانتصارات تكمن حضارات الأمم

1300x600
منذ أن انتصر الحلفاء في الحرب العالمية الثانية وهم يجنون ثمار انتصارهم حتى هذه اللحظة، ونراهم يسيطرون على مجلس الأمن ومقاليد السياسة الدولية ومفاصل الجغرافيا على الكوكب ومفاتيح الاقتصاد، فضلاً عن السيطرة العسكرية والجيوسياسية المستمرة والمتزايدة على مدى 75 عاما. فالدماء التي بذلتها هذه الشعوب لم تذهب هباء، ولكنها بنت حضارة وتقدما، وسيطرت دول وأمم على الأرض، وحمت أمنها القومي بكل صورة وحافظت على مقدرات شعوبها.

حتى الشعوب والدول التي هزمت في الحرب العالمية وظلت إرادتها مرتهنة للمنتصر لعقود طويلة؛ استطاعت أن تسثمر ما تعلمته من دروس الهزيمة. فنجد اليابان وألمانيا وتركيا قد عادت كلاعبين وأرقاما مهمة، سواء على ساحة الحريات أو ساحة التطور والتقدم التكنولوجي، وكل منها أصبح رقما صعبا في المعادلة الدولية لا يمكن إهماله أو تجاوزه.

أما على الجانب الآخر، فنصر أكتوبر هو نصر للشعب المصري على العدو المحتل، ومحو لعار هزيمة عسكرية تسبب فيها العسكر.. هزيمة كُتبت أسرارها على ملاءات أسرّة غرف نوم قادة العسكر. نعم، الشعب المصري ورجال شرفاء من الجيش محوا تلك الهزيمة في 1973، ولكن هل نستطيع أن نقول إن دماء أبنائنا التي أريقت في سيناء وغيرها قد أنبتت شجرة التقدم والعزة، سواء بالتعلم من درس الهزيمة القاسي أو استثمار هذا النصر في صالح تقدم ورقي وعزة هذا الوطن، وكرامة شعبه ورقي حضارته؟

لكي تجيب على هذا السؤال، انظر إلى حال مصر اليوم..

فسيناء تم تدمير مدنها، وتم محو رفح من الخريطة المصرية، مع تهجير أهلها لصالح أمن إسرائيل. وأصبح المواطن الإسرئيلي له حقوق الدخول والبقاء والاستمتاع بسيناء، بل الإقامة والاستثمار فيها، أكثر من المواطن المصري.

سيناء أصبحت أسيرة بين مجموعة من العصابات والمليشيات التي تديرها دول مع الخونة من العسكر، لتكريس مفهوم الحرب على الإرهاب الذي صنعوه هناك بأيديهم. سيناء الآن بعدت أكثر عن مصر بسبب التفريعة الفاشلة التي حفرها نظام الانقلاب لتعزل سيناء جغرافيا أكثر بعيدا عن الوادي، بعدما تم عزلها اقتصايا واجتماعيا أثناء حكم مبارك.

مصر لم تتعلم من دروس هزائمها، فهي الآن أسيرة لدي الكيان الصهيوني؛ يصدر إليها الغاز بالأسعار العالمية من الآبار التي تنازل له السيسي عنها في شرق المتوسط، بعدما كنا نصدر له بأقل من خمس السعر العالمي على مدى 15 عاما، باتفاق جائر أثناء حكم مبارك.

مصر الآن تستجدي إثيوبيا لتعطيها حقوقها في مياه النيل، وتستجدي دول العالم لكي تتدخل للحفاظ على حقوقها التاريخية في النهر.. تجد الآن في مصر أحفاد من استشهدوا دفاعا عن الوطن يأكلون من القمامة وينامون تحت الكباري ويتسولون رغيف الخبز من الجوع، بسبب الفقر والفاقة.

مصر الآن ضاعت مكانتها الإقليمية وقيمتها الدولية، وأصبحت مجرد دولة تعيش على القروض والمساعدات.. مصر الآن تحولت إلى جمهورية الخوف، فالعسكر الذين يتاجرون بانتصار الشعب المصري وينسبونه لأنفسهم؛ هم في الواقع لم ينجحوا إلا في التصويب على صدور المصريين، فقتلوا ما يتجاوز 12 ألفا في أقل من سبع سنوات، واعتقلوا أكثر من 70 ألف معتقل مصري بريء في أسوأ ظروف اعتقال في العالم.

في مصر الآن تم تسخير الجيش وقادته وإمكانياته ليقتصر الإنتاج الحربي على زراعة الفلفل الملون وإدارة المزارع السمكية ومزارع النعام، وبالتالي انهارت المنظومة القتالية للجيش؛ لدرجة أن مجموعة من المجرمين يتلاعبون بضباطه في سيناء، فعدنا لا نسمع إلا عن مقتل شباب الضباط والجنود أسبوعياً في سيناء وغيرها، دون أن يكون معهم غطاء جوي يحمي حياتهم.. هل هذا لأن الطائرات مشغولة بنقل القادة بين المشروعات المختلفة؟ أم لتأمين تحركات وتشريفات قائد الانقلاب؟

مصر الآن تتذيل قائمة الأمم في التعليم والبحث العلمي والصناعة والزراعة والصحة، حيث تصدرت مصر قائمة الدول التي يعاني شعبها من أسوأ رعاية صحية. بل إن وجود الدولة المصرية أصبح مهددا بسبب الاتفاقيات المهينة التي كبلت بها حكومة الانقلاب كاهل الدولة، وتنازلت فيها عن حدود الأمن القومي المصري، وعن الجزر الاستراتيجية (تيران وصنافير)، وعن حقوق مصر التاريخية في مياه النيل وآبار غاز شرق المتوسط.. هذا فضلا عن أن القرار المصري الآن أصبح مرهوناً برضى ورغبات عواصم كان كل الشرف لها في الماضي القريب أن يرفرف علم مصر فوق أراضيها.

من هنا نرى أننا نعيش حالة من الهزيمة أقسى مما كنا عليه في أعقاب 1967، فعلى الأقل حينها كان لدى الشعب المصري العزيمة والإصرار على محو آثار الهزيمة وتحرير الأرض والثأر للعرض، وكان هناك قادة في الجيش من الشرفاء من أبناء هذا الشعب العظيم، من أمثال الشهيد عبد المنعم رياض والشاذلي والجمسي وعبد المنعم واصل وعبد العاطي صائد الدبابات، وغيرهم الآلاف من أبناء الشعب المصري؛ من فلاحين ومن صعايدة من المدن والقرى والأعراب في كل مكان في مصر.

عقود من العمالة والخنوع بدأها السادات بتحويل دفة الحرب في 1973 من النصر إلى الانكسار في الثغرة، وتلا ذلك تسريح قادة الحرب وأبطالها، ثم أتبع ذلك بمعاهدات الاستلام والخضوع وما ترتب عليها من تحويل الجيش المصري من جيش محترف منتصر في الحرب؛ إلى جيش كل مهاراته تتركز في بناء القصور والمزارع السمكية واستصلاح الأراضي واللهاث وراء الاستثمارت.

إن كان لا بد من الزحف فليكن خلف الشباب العزل في الشارع، وإن كان من ضرورة لحمل السلاح فلتكن فوهاته موجهة فقط نحو صدور المصريين العزل لإخضاعهم كما خضع قادة العسكر الآن.. هؤلاء القادة الذي تم تبديل ولائهم؛ من الولاء لأمن الوطن ومستقبله إلى الخضوع الكامل لشروط المعونة الأمريكية، والتي أقرتها أمريكا كاستثمار في الجيش المصري لصالحها، حتى يتحول من جيش محترف في القتال إلى جيش محترف في قمع مواطنيه بدلا من حمايتهم، والسهر على تدمير الأمن القومي المصري بدلا من الحفاظ على سلامته.

رأينا كيف تتعلم الأمم من دروس هزائمها أو كيفية استثمار انتصاراتها، بينما في مصر وللأسف لم نتعلم من دروس الهزيمة ولا حتى استثمرنا انتصاراتنا، بل تحولت إلى هزائم يئن تحت وطأتها الشعب المصري.

إذا الشعب المصري أمام تحد جديد لانتزاع نفسه من الهزيمة إلى النصر، ولاسترداد كرامته وعزته كما فعلها من قبل في أعقاب 67. وليعلم الشعب المصري أن حزيران/ يونيو 67 لم تكن أبدا هزيمة شعب، ولكنها كانت هزيمة نظام عسكري حولها الشعب المصري إلى انتصار شعب في تشرين الأول/ أكتوبر 73. أما آن الأوان ليهب الشعب المصري ويغسل عار هزائم العسكر المتتالية بخنوعهم وخضوعهم وتفريطهم وقتلهم الشعب المصري منذ الانقلاب على شرعيته وحتى الآن، بل وتلويث التاريخ في ذكرى أكتوبر عام 2013، بقتلهم الشباب العزل في شوارع القاهرة، فضلاً عن العبث بمقدرات الشعب طوال عقود؟ أما آن الأوان لهذا الشعب أن يحرر نفسه وينطلق إلى استثمار انتصاره نحو تأمين حريته ونهضته ورخائه وتقدمه؟