قضايا وآراء

مذابح البوسنة المُلهمة لليمين الغربي

1300x600
تنتهي المذابح والجرائم ضد الإنسانية نهاية جماعية وليست فردية. فالمحاكمات لا تنهي المذابح، ما دام جذر المشكلة موجودا. تنتهي الجولة الأولى منها، وتبقى الجولة الثانية مؤجلة ربما لعقود. جلسات العفو والمصالحة والمصارحة تساعد في الأمر، لهذا يتذكر الأوروبيون كل عام ما حدث في الحربين العالميتين الأخيرتين في القرن الماضي، ويتذكرون دائما ما حدث لليهود في الهولوكوست. فالعنف الجماعي أخطر من العنف الفردي، خاصة إذا كان مبنيا على أفكار وأيديولوجيات مدمرة.

لا نبالغ إذا قلنا إن مذابح البوسنة والهرسك قبل نحو ثلاثة عقود لم تنته بتفكك يوغوسلافيا ومحاكمة القيادات، فالنار تحت الرماد، والغل يملأ صدورا كثيرة. واتفاق دايتون كان اتفاقا اضطراريا لكل الأطراف، أكثر منه فرصة اجتماعية للتعايش والمصالحة، على غرار ما حدث في روندا أو جنوب أفريقيا أو غيرها من الدول. وقد نشرت قناة دويتشة فيلا الألمانية باللغة العربية قبل يومين تقريرا مثيرا للرعب؛ يشير إلى مدى إلهام مذابح البوسنة لليمينيين المتطرفين الغربيين.

ليست مصادفة أن يكون برانتونتارنت مسجد النور في نيوزيلاندا وهو في طريقه للقيام بالمذبحة في آذار/ مارس الماضي؛ يستمع لأغان ألفها الجنود الصرب وهم يقومون بالمذابح ضد المسلمين في البوسنة والهرسك. من هذه الأغاني أغنية تمجد الزعيم الصربي السابق رادوفان كاراديتش، وهو الرجل الذي أدين قضائيا بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية تجاه مسلمي البوسنة. كما اعترف أندريس بريفيك، منفذ أكبر هجوم على مدنيين في النرويج عام 2011، والذي أودى بحياة 77 شخصا، قائلا إنه استوحى هذا الهجوم من مجازر البوسنة.

من ناحية أخرى، نشرت مجلة فورين بوليسي الأمريكية مقالا أكثر رعبا؛ يفيد بأن غالبية التطرف اليميني الغربي الحالي بدأ بصراعات في البلقان في التسعينيات خاصة حرب البوسنة والهرسك. ليس هذا وحسب، بل إن آلافا من المتطوعين الأوروبيين في جيش الصرب والكروات قد عادوا إلى بلدانهم، وأصبح بعضهم نواة لمليشيات يمينية تحولت مع الوقت إلى قوى سياسية. وأوردت المجلة صراحة أن الجميع يركز على حروبا عديدة في الشرق الأوسط خلقت ما يسمى بالمتطرفين المسلمين، وينسون أن هناك حروبا أوروبية خلقت أجيالا من المتطرفين المسيحيين.

الأمر ليس تكهنات أو حالات فرديا إذا، وإنما سموم أيديولوجية لم تجد من يطهر البلاد والعباد منها، في ظل انشغال الجميع بمشاكل المهاجرين المسلمين ومغازلة الناخب اليميني الأبيض.

منذ نحو عقدين من الزمان؛ أتيح لي لقاء بعض المسؤولين البوسنيين في الحكومة التي تشكلت بعد اتفاق دايتون وانتهاء الحرب، أثناء زيارة وفد منهم للقاهرة. قال لي أحدهم جملة لا أنساها وهي: "العرب والمسلمون تذكرونا عندما كنا نريد أغطية ومواد غذائية أثناء الحرب، ونسونا ونحن نريد مصانع ومشاريع ومدرسين".

اليوم، وبعد كل هذه السنوات، يحتاج العرب والمسلمون أن يتذكروا البوسنة التي لا تزال تحتاج لمثل هذه المشاريع بالطبع، ولكن يحتاج أن يستدعوا مجازرها ويذكروا بها غيرهم حتى لا تتكرر مرة أخرى.

المجتمعات والحكومات الغربية تعمل عن طريق الضغوط السياسية والإعلامية. وحرب البوسنة لم تجد من يتبناها ليحييها أوروبيا ولا حتى عربيا، للاستفادة وتقييم الدروس العبر. فلا تزال معظم دول أوروبا الغربية تتعامل مع هذا الحرب المروعة والمجازر التي وقعت هناك، وكأنها قامت في قارة أخرى وليس في بلد أوروبي مجاور. يستوي هذا التعامل على المستويات الشعبية والرسمية، وهو الأمر الذي يحتاج لتغيير خلال الفترة الماضية، مع انتشار الأدلة الدامغة عن أن هناك كثيرين من اليمينيين المتطرفين قد أمنوا العقوبة فأساءوا الأدب.