كتاب عربي 21

عن أم كلثوم وأندادها من الساسة

1300x600

كان وما زال كثير من أصدقائي يعيبون عليّ عزوفي عن غناء أم كلثوم، ويقولون إن ذلك ناجم عن خلل مريع في غدد التذوق الموسيقي عندي، وبما أن متابعة الحفل الغنائي الشهري لأم كلثوم كان في نظر الكثيرين بمثابة "سنة مؤكدة"، فقد صرت حريصا على إخفاء عدم استساغتي لغناء الست، حتى لا يتم طردي من ملة المثقفين، ولم يكن يشفع لي أنني معجب بغناء فيروز؛ واستغرقت تلك "التقية" مني دهرا طويلا، لأن الست ظلت تشدو لعقود طويلة، ولكنني على الأقل لم أكن مثل بلدياتها الشاعر أحمد فؤاد نجم الذي ساءه الطول الزمني لعمرها الغنائي ـ وليس فقط أغنياتها ـ فهتف:

يا ولية عيب اختشي يا شبه إيد الهون/ ده انتِ اللي زيك مِشي/ يا مرضعة قلاوون/ مدحتِ عشرين ملك/ وميت وزير ورئيس/ مروان، وعبد الملك/ والمفتري (يقصد عبد الناصر) ورمسيس/ بتغني بالزمبرك؟ وللا انتِ صوت إبليس/ من أول المبتدأ، حتى نهاية الكون؟

 

الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير، كان يرى أن الخطابة وحدها لا تكفي لنيل استحسان الجمهور، ولهذا كان أعوانه يقومون بتشغيل موسيقى تصويرية وأغنيات حماسية خلال خطبه ليتسنى له أداء رقصة يقوم خلالها بالتفكير فيما سيقوله لاحقا


لم يكن مرد نفوري أو عزوفي عن غناء أم كلثوم عدم استساغة أداء أو لحن أو كلمات أغنياتها، فهذه أمور لم يتسن لي الحكم لها أو عليها، لأنني عجزت رغم المحاولات المتكررة عن البقاء مستمعا لها لأكثر من خمس دقائق، بينما كان المقطع الواحد عندها من أغنية تتألف من نحو تسعة مقاطع يستغرق تلك الدقائق الخمس، ولهذا كان المعجبون بغنائها يتبطلون تماما ويتفرغون لحفلها الشهري زهاء ست ساعات صائمين عن الطعام والكلام.

 

عبد الناصر والقذافي ونميري والبشير

 
جاء معمر القذافي على رأس السلطة في ليبيا، في زمان كان فيه العالم العربي ينقسم إلى فسطاطين: التقدمي والرجعي، ولأنه انقلب على نظام ملكي "رجعي"، فقد وجد القبول من معظم جيل الشباب، خاصة وأنه قدم نفسه تابعا لشيخ الطريقة التقدمية وقتها جمال عبد الناصر، الذي كان محل ترحاب في قلوب ملايين العرب، بعد تأميم قناة السويس وتطبيق الإصلاح الزراعي ومجانية التعليم، ولمجاهرته بمقاومة الاستعمار.

وحرص القذافي على مجاراة عبد الناصر في كل شيء، فأمّم وصادر الممتلكات الأجنبية في ليبيا، ولكن ولأنه كان قليل الزاد الفكري والفلسفي، فقد جاراه أيضا في الخطب "المعلقات"، دون أن تكون له كاريزما ناصر وقدراته الخطابية، فعمد إلى تعويض ذلك بمزيد من التطويل والتهريج واستجداء التصفيق بطزطزة أمريكا، فقد صارت عبارة "طز في أمريكا" لازمة ثابتة في خطبه، إلى أن وجد نفسه في أواخر سنوات حكمه يريق ماء وجهه لخَطْب وُدِّها.

ابتلى الله العرب وغير العرب بحكام يحسب الواحد منهم أنه أم كلثوم السياسة، وما إن يعتلي منبرا حتى يفتح صنابير الكلام في المليان حينا وفي الفارغ أحيانا أكثر، وكان جعفر نميري الذي حكم السودان من عام 1969 إلى 1985 أيضا مثل القذافي شديد الحرص على إظهار حبه لعبد الناصر، ومثل القذافي أيضا لم يجد مجالا يجاري فيه عبد الناصر حذو النعل بالنعل إلا في الخطب الجماهيرية الطويلة.

وفي أول احتفال جماهيري بعد استيلائه وصحبه العساكر على السلطة، وقف نميري يخاطب الحشود في استاد رياضي في الخرطوم وعن يمينه ناصر وعن يساره القذافي، وظل يزمجر ويهدر ويبرطم حتى لاحظ أن الناس بدأوا في التسلل خارج الاستاد، وتذكر عندها أن "الكورة أهداف"، فقال خارج النص: اصبروا شويه في حاجات حلوة جاية، وكانت تلك الحاجات الحلوة تأميم ومصادرة ممتلكات بالجملة، من بينها مخبز وخمّارة.

 

 

كان جعفر نميري الذي حكم السودان من عام 1969 إلى 1985 أيضا مثل القذافي شديد الحرص على إظهار حبه لعبد الناصر، ومثل القذافي أيضا لم يجد مجالا يجاري فيه عبد الناصر حذو النعل بالنعل إلا في الخطب الجماهيرية الطويلة.


وشيئا فشيئا أحس نميري أن المناسبات العامة التي تتيح له مخاطبة الجماهير قليلة، فصار يقدم برنامجا تلفزيونيا شهريا يكتب له الكورال المصاحب أسئلة على أنها آتية من المواطنين، ويتولى هو الرد عليها، وسرعان ما جاراه القذافي في ذلك وصار له برنامج تلفزيوني أسبوعي، ثم جاء قذافي أمريكا اللاتينية، هوغو شافيز، والذي كان مثله الأعلى الزعيم التاريخي لكوبا فيدل كاسترو الذي اشتهر بخطبه المطولة، وتحول شافيز إلى نجم تلفزيوني أكثر منه رئيس دولة، وتكلم ذات ليلة في برنامجه لثمان ساعات متصلة، وفات على شافيز أن كاسترو نال ما نال من مكانة محلية وعالمية بعرق نضاله، وأنه كان ما لديه أن يقوله للكوبيين وبقية العالم في خطبه التي كان بعضها يستغرق أربع ساعات.

أما الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير، فقد كان يرى أن الخطابة وحدها لا تكفي لنيل استحسان الجمهور، ولهذا كان أعوانه يقومون بتشغيل موسيقى تصويرية وأغنيات حماسية خلال خطبه ليتسنى له أداء رقصة يقوم خلالها بالتفكير فيما سيقوله لاحقا، ولكن، ولأنه أدمن الارتجال في الخطب والعمل التنفيذي، فقد زل لسانه مرارا كما حدث وهو يخاطب الرئيس المصري الراحل محمد مرسي على أنه "محمد حسني"، أو عندما قال لجمع في ولاية كردفان بأنهم ينتمون لخير أمة "أُخرجت إلى النار".

يعتبر كثيرون إدوارد إيفريت الذي ظل نجمه في صعود كرجل تربوي وداعية تبشيري حتى صار وزيرا لخارجية الولايات المتحدة في ستينات القرن التاسع عشر، يعتبرونه أشهر وأمهر أمريكي اعتلى المنابر، وفي عام 1863 ألقى خطابا من 13607 كلمة استغرق ساعتين، في غيتيسبيرغ حيث دارت أشرس معارك الحرب الأهلية الأمريكية، وأعقبه الرئيس الأمريكي الأسبق أبراهام لنكن بكلمة استغرقت خمس دقائق، وما زال الأمريكان يعتبرون ما صدر عن لنكن خلال تلك الدقائق الخمس قلائد من جُمان، بينما لا يذكر أحد حرفا مما قاله الخطيب المفوه إيفريت يومها.

وهكذا يتأكد حتى في مجال الكلام العام أن الزبد يذهب جفاءً، ويبقى ما ينفع الناس.