كتاب عربي 21

انتخابات تونس 2019.. مواعيد ميلاد جديد

1300x600

الصراخ العالي الذي نسمع حول الانتخابات الرئاسية في تونس 2019، والذي سيترفع أكثر قبل الانتخابات البرلمانية، يؤذن بولادات جديدة، لذلك نرى أنها انتخابات فرز بين قديم يتلاشى من عجز وجديد يولد من فقر، ولكنه فرز عميق ومفصل تاريخي يؤذن بتقدم التجربة السياسية الجديدة؛ التي لم تكن ثورة ماحقة للقديم بجديد مطلق ولم تستسلم للقديم بخنوع واستكانة. نستشرف علامات ولادة الجديد من ركام قديم تحت وقع الصراخ الانتخابي المؤقت، فنرى منظومة حكم جديدة ومعارضة جديدة.

إعادة بناء منظومة الحكم

لا أكتب هذا للذين يحلمون بتونس بدون إسلاميين، فالزمن يرغمهم على التسليم قريبا بمنظومة حكم يحتل فيها الإسلاميون مكانة أولى. فمنذ أعلن حزب النهضة ترشيح أحد قيادته لمنصب الرئيس، تجاوز الاحتمال الصفر وصار احتمالا كبيرا، خاصة بالنظر إلى الصراعات التي يخوضها مرشحو المنظومة القديمة فيما بينهم، وهم يتقدمون شتاتا، وبالنظر أيضا إلى غياب مرشح إجماع ممن عارض منظومة الحكم بين 2014 و2019؛ المؤلفة أساسا من حزب النداء وحزب النهضة. وقد صرح الغنوشي بين أنصاره بأن قصر قرطاج ليس محرما على الإسلاميين.

 

لا أكتب هذا للذين يحلمون بتونس بدون إسلاميين، فالزمن يرغمهم على التسليم قريبا بمنظومة حكم يحتل فيها الإسلاميون مكانة أولى. فمنذ أعلن حزب النهضة ترشيح أحد قيادته لمنصب الرئيس، تجاوز الاحتمال الصفر وصار احتمالا كبيرا

فضلا عن ذلك، فإن للحزب حظوظا وافرة في نيل تصويت شعبي يرفعه إلى مكانة الحزب الأول المكلف بتشكيل الحكومة، مثلما كان الأمر في 2011، دون أن نغفل هنا أيضا أن تشتت منافسيه يوسع له الطريق نحو السلطة. لذلك، نعتقد أن الحزب سيقود تونس من موقع أول خلال الفترة القادمة، وسيكون بيده تشكيل منظومة الحكم الجديدة التي سيحتاج فيها حتما إلى شركاء. ولا شك في أنه سيبحث عنهم ضمن مكونات المنظومة القديمة، قبل الميل إلى المعارضات الجديدة الناشئة، وذلك تحت مسميات توافقية، وذلك لسببين؛ أولهما أن المنظومة وإن كانت تبدو مشتتة إلا أن لها خزانا انتخابيا لم يتلاش كليا، وسيكون له وزن برلماني أكبر من شتات المعارضة الحالية، بما يعطي الصورة التالية حزب النهضة الأغلبي مع حزب أو كتلة ثانية مؤلفة من بقايا المنظومة (أي منظومة 2014-2019) مقلوبة لصالح النهضة. لكن من تكون معارضته داخل البرلمان وفي الشارع؟

نهاية المعارضة القديمة

فترة حكم الباجي شهدت تلاشي معارضة نظام بن علي القديمة. فالجبهة الشعبية اليسارية المؤلفة من أحزاب اليسار الراديكالي وشخصياته المستقلة تفككت واختصمت مكوناتها قبل الانتخابات، بما أضعف حظوظها دون المستوى الذي فازت به في 2014، حيث كانت لها كتلة معارضة من 15 نائبا. وهي تتقدم للانتخابات الرئاسية بثلاثة مرشحين لهم نفس الخطاب، وسيكون لصراعهم الآن أثر سلبي على احتمالات التنسيق والتعاون في التشريعية القادمة.

كما شهدت نفس الفترة ذوبان حزب السيد نجيب الشابي الذي ألف في نفس الفترة ثلاثة أحزاب؛ خرج منها جميعها عاجزا عن إيجاد عشرة آلاف تزكية شعبية تؤهله للدخول في سباق الرئاسة. ويقبع شقيقه/ وريثه على رأس حزيب صغير لم يفز بأي مقعد في البلديات. ولم يكن مصير حزب التكتل الذي قاده الدكتور مصطفى بن جعفر بعيدا عن نفس المصير، وإن كان أفلح حتى الآن في تجديد قيادته بعد انسحاب نبيل وأنيق للرجل المؤسس.

ويعيش حزب الدكتور المرزوقي مصيرا مماثلا، حتى أنه تخفى تحت مسمى سياسي هلامي (تونس أخرى) ليشارك في الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وبقاؤه مرهون بإرادة الدكتور المرزوقي الذي يتقدم للاستحقاق الرئاسي بماضيه السياسي بلا بمشروع سياسي جديد. إذن، من تكون المعارضة الجديدة التي أتوقعها وأبشر بها ضمن منظومة الحكم الجديدة؟

 

قد نعود إلى تسمية مرحلة 2014-2019 بمرحلة تآكل القديم ونشأة الجديد. والجديد هنا ليس قويا بقدر وليس صفرا.. أهم علامات الجديد حركة الأمل والعمل التي أسسها، ويقودها حتى الآن مجموعة من الشباب

الشباب التونسي تحرر من الأسماء الكبيرة

قد نعود إلى تسمية مرحلة 2014-2019 بمرحلة تآكل القديم ونشأة الجديد. والجديد هنا ليس قويا بقدر وليس صفرا.. أهم علامات الجديد حركة الأمل والعمل التي أسسها، ويقودها حتى الآن مجموعة من الشباب على رأسهم ياسين العياري، وهو خبير دولي في الأمن السبراني وشارك ضمن مدونين كثر في تهيئة الثورة التونسية، ولم يتوقف عن الحركة السياسية، وقد التحق بالبرلمان ضمن انتخابات تكميلية في 2018. وأحدث تجديدا في العمل البرلماني أربك الكتل الكبيرة الجامدة، بما في ذلك كتلة حزب النهضة الكلاسيكية في أسلوبها والمرتهنة بقرارات الحزب قبل مجريات العمل البرلماني. وقد اتخذ مع مجموعته الآخذة في الانتشار أسلوبا عصريا في العمل يعتمد الشبكات المعلوماتية والتواصل المباشر، ونرجح أن سيكون له كتلة برلمانية بين 7 و10 نواب، بما يعطيه صوتا برلمانيا عاليا وثابتا ودائما.

إلى جانبه، ورغم خلاف كبير معه نتج عن صراع في الانتخابات الجزئية التي انتصر فيها العياري، يبني حزب التيار الديمقراطي نفسه بثبات، وقد رشح التيار مؤسسه وقائده محمد عبو للاستحقاق الرئاسي. وعلى خلاف الكثيرين، نرى أن عبو يشتغل الآن على تقوية حزبه في الشارع وفي البرلمان قبل رغبته في الفوز في 2019، وهدفه البعيد هو انتخابات 2024 التي سيدخلها بحظوظ أوفر، بعد أن يشارك في معارضة المنظومة الجديدة من موقع متقدم إن لم يكن من موقع أول.

هؤلاء من سميتهم بالمعارضة الجديدة يتميزون بأنهم تحرروا من أسماء الزعماء التاريخيين للمعارضة. فعبو مثلا يخوض صراع وجود ضد الدكتور المرزوقي، في ما يشبه عملية قتل الأب لعلاج عقدة الخصاء الأوديبي، بينما يتقدم العياري بدون وجل من أسماء أكبر من اسمه؛ اقترب منها وابتعد بحسب الظرفيات. وهم متحررون من الخطاب الأيديولوجي الذي تميزت به الأحزاب اليسارية الكلاسيكية (الجبهة الشعبية). هؤلاء ليس لهم كبير، وهم يصنعون كبيرهم من داخلهم، لذلك يمتلكون حظوظا كبيرة في البقاء والتقدم. وهم في وضع أفضل من شتات المجموعات التي اشتغلت مع الشابي والمرزوقي وبقية الطيف اليساري المتكلس، فضلا عما ذكرت من اتخاذهم أساليب عمل سياسي وتواصلي تقني وشعبي؛ مختلفة كليا عن صورة الزعيم الحزبي الذي يمكث في مكتبه ويطلب من الشعب أن يأتيه حيث هو لينصبه ملكا.

هؤلاء هم المعارضة الجديدة، وسيكون لعملهم البرلماني (وإن كانوا في قلة) وسيلة جذب كبيرة لشباب نفر من الأسماء الكبيرة ومجّ أساليبها، دون أن نغفل أن في هؤلاء أيضا بذرة زعامة وغرور قد تنتكس بهم إلى زعامات صغيرة بلا قاعدة

هؤلاء هم المعارضة الجديدة، وسيكون لعملهم البرلماني (وإن كانوا في قلة) وسيلة جذب كبيرة لشباب نفر من الأسماء الكبيرة ومجّ أساليبها، دون أن نغفل أن في هؤلاء أيضا بذرة زعامة وغرور قد تنتكس بهم إلى زعامات صغيرة بلا قاعدة، فضلا على أنهم احتفظوا من المراحل السابقة بوهم صناعة مجد على حساب حزب النهضة، عبر التهجم عليه وعلى قيادته بطريقة طفولية لا بطريقة معارضة ناضجة وبنّاءة.

سيظل هناك صوت اليسار الراديكالي عاليا وإلى جانبه جماعات صغيرة من القوميين، ولكنها جماعات في الطريق التلاشي بحكم عدم إيمانها الحقيقي بالديمقراطية، فهي في غالبها مع حفتر في ليبيا ومع السيسي في مصر ومع بشار في دمشق ومع الديمقراطية التمثيلية في تونس، وهذا يجعلها محل سخرية واستهجان. ولن يمكن لهؤلاء استعمال النقابة إلى ما لا نهاية، فقد استنزفت النقابة حتى صارت العدو الأول للمواطن التونسي المقهور من إضرابات سياسية ذات طبيعة إجرامية.

الصراخ العالي بالويل والثبور لن يمنعنا من الرؤية، فالمشهد يتغير نحو الاستقرار، ونحن لم نعد نسمع خطاب2011 و2014 الاستئصالي، وصار الحديث عن الإسلاميين حديثا عن حزب سياسي لا عن طائفة دينية مغلقة وإرهابية، واختفت قضايا المزايدة بالمرأة والحرية، فالإسلاميون يملكون أن يزايدوا على اليسار باحترام المرأة وتشريكها في القيادة والفعل. ولم يعد العمل السياسي عامة يقوم على ثنائية مع الإسلاميين أو ضدهم. وسيكون على منظومة الحكم الجديدة (حكومة ومعارضة) أن تواجه معا وبشجاعة منظومة الفساد الموروثة، بما في ذلك المنظمة النقابية الفاسدة، والتي تحمي الفساد خوف أن يصل إليها قلم التحقيق.