أفكَار

المفكر الجزائري مالك بن نبي.. يعود من جديد

المفكر مالك بن نبي، يأخذ نصيبه في عملية "رد الاعتبار" داخل الحراك الجزائري، بما يليق بمقامه (أنترنت)

أن يعود الحديث عن المفكر الكبير مالك بن نبي في الجزائر، فهذا معناه أن شيئا ما تحرك في هذا البلد، اسمه الذي كاد أن يمحى من ذاكرة الأجيال، لأن منظومة الحكم اختلفت مع فكر الرجل العابر للحدود والقارات والحضارات، يعود اليوم وبقوة، ليس فقط في الشارع حيث الحراك الشعبي، الذي رفع اسمه عاليا إلى جانب عظماء الجزائر الآخرين، أمثال رائد النهضة الشيخ ابن باديس، والعلامة البشير الإبراهيمي، والشهيد الرمز العربي ابن مهيدي وغيرهم، وإنما لأن المنظومة الجديدة، ربما اختارت أن تبعث بإشارتها إلى من يهمه الأمر عبر التلفزيون الرسمي، عبر بث محاضرة له (أزمة الحضارة الإسلامية) التي ألقاها عام 1970، تشير إلى رفع الحظر المفروض عن الرجل منذ سنوات طويلة، ليستبشر الجزائريون، أن عهدا جديدا ربما يكون بصدد الميلاد، يحتفي ولو نظريا بأهل الفكر والحضارة، بعد أن ترك المجال واسعا لأهل البدع والأهواء والرقص.

 



لكن هل عودة صاحب "الظاهرة القرآنية"، و"شروط النهضة"، عودة حقيقية لأرضه ووطنه، وباقي الدول العربية أيضا، التي لم تحسن قراءة فكره واستغلال الكنوز التي يحتويها للخروج من حالة التخلف المركب الراهن؟ أم إن الأمر مرتبط بحالة عاطفية آنية، تصنعها الثورات في بداياتها الرومانسية، قبل أن تنتكس مجددا بفعل الثورات المضادة، والفكر الرجعي المضاد، والقوى التي ما زالت رهينة لفكرة ابن نبي حول "القابلية للاستعمار"؟

ما يهمنا الآن هو أن نحتضن هذا الرجل المعجزة، الطفرة النادرة التي عرفها عالمنا الإسلامي منذ ابن خلدون، وأن نفتح نافذة لفكرة الحضارة وارتباطها بالثقافة والأفكار كما فتحها هو، وأن نعيد طرح الأسئلة نفسها التي طرحها حول أسباب تقهقر المسلمين، لعلاج المرض وليس أعراضه فقط، لأن الثورة والانتفاضة التي لا تستهدف إلا التحرر السياسي، والبناء الديمقراطي، دون أن تجرؤ على استهداف التحرير الفكري، بغرض صناعة حضارة جديدة أصيلة وليست تابعة للغرب، لن تكون في النهاية غير مسكن، سرعان ما يزول مفعوله مع أول انقلاب عسكري.

لا نبي في وطنه .. وكذلك ابن نبي

إذا كانت مقولة "لا نبي في وطنه" تنطبق على أحد، فلن يكون سوى ابن نبي.. فالرجل الذي هاجر وطنه 30 سنة، قضاها كما يقول هو "كحيوان مطارد"، يجد نفسه، بعد أن عاد إليه، بعد الاستقلال سنة 1963، كهدف لقناص محترف.

وخلال عشرية كاملة (1963/1973)، كانت آخر نبضه في الحياة، قضاها مالك بن نبي في وطنه قبل أن يودع الدنيا، رأى من المعاناة كما ذكرها في دفاتره الخاصة برواية الأستاذ عبد اللطيف سيفاوي، ما لم يره مثقف آخر، حيث بسبب رفضه منهج الدولة الجديدة في التوجه الاشتراكي، وعدم مسايرة منظومة الحكم في قراراتها، حوصر ابن نبي ورُفض نشر مقالاته، وتم عزله من التعليم العالي ومنعه من إلقاء دروسه إلا في بيته، ومنع من التواصل مع الرئيس ابن بلة، واستمر الحال مع الرئيس هواري بومدين، إلى أن وصل الأمر سنة 1969، إلى منع كتب مالك بن نبي من العرض في معرض الكتاب.

 



كان ابن نبي، يكتب مذكراته بألم وتكتم، ونتيجة القهر والوحدة، يكتب هذا العملاق في لحظة ضعف: "أشعر أني كذرة وحيدة تقاوم قوى عملاقة".

كان عزاء الرجل، أن أحرارا وعظماء آخرين، يعيشون الظروف القاسية نفسها بدرجات، فلقد تم تجميد عمل جمعية العلماء المسلمين، التي كانت مركز الوعي الثوري والديني، وفرض على شيخها البشير الإبراهيمي خليفة الشيخ عبد الحميد بن باديس على رأس الجمعية، عقوبة الإقامة الجبرية، كما حوصر كتاب وأدباء ومفرون آخرون، لعل أبرزهم كان شاعر الثورة الكبير، وصاحب نشيد "قسما" الوطني، مفدي زكرياء.

ولأنه لا نبي في بلده، فإن الدعم الذي تلقاه ابن نبي في الخارج كان ضمادة آلامه، فحيثما حل أو ارتحل، كانت أفكاره وكتبه تسبقه، لكن أرض الكنانة مصر، كان لها الفضل الأكبر، فكانت فترة مكوثه بمصر بين 1956 و1960 من أكثر الأوقات ثراء بالانتاج الفكري، حيث تولت السلطات المصرية وقتها متطلباته، وأقرت له راتبا للتفرغ للعمل الفكري، ولقاء الطلبة والتلاميذ من مختلف أنحاء العالم، بل إن ما شهدته كتبه من إقبال منقطع النظير بالقاهرة عند عوته إليها سنة 1968 جعله يكتب : "أشعر أني معروف ومحترم أكثر خارج وطني".

ولم تكن مصر حينها حالة شاذة، بعد أن انتشرت أفكاره في جميع أنحاء العالم، وكان لها إشعاعها الخاص في ماليزيا وأندونيسيا بشكل واضح، وها هي كتبه إلى اليوم تدرس حتى في الجامعات الفرنسية والإسرائيلية، بينما لا يكاد يذكر اسمه تقريبا في موطنه، طوال العقود الماضية إلا همسا، لولا أن قبسا من أمل بدأ يلوح أخيرا في الأفق. 

مالك بن نبي في قلب الحراك

أخذ المفكر مالك بن نبي، نصيبه في عملية "رد الاعتبار" داخل الحراك الجزائري، بما يليق بمقامه، لإدراك فعاليات الحراك، قيمة الرجل الفكرية، ونضالاته وتضحياته العظيمة، في مواجهة سلطة الطغيان والاستبداد منذ عودته إلى أرض الوطن بعد الاستقلال سنة 1963، وهي السلطة ذاتها والممارسات ذاتها التي استمرت بداية من أحمد بن بلة إلى غاية سقوط بوتفليقة.

الحراكيون كانوا وهم يحاولون تحرير أنفسهم من الطغيان، أردوا أيضا تحرير رموزهم الوطنية والفكرية والعلمية في قبورهم، وبينما رفعت صور رائد النهضة الحديثة الشيخ العلامة عبد الحميد بن باديس، وتشكل تيار واسع باسم "الباديسية"، ومعها صور البشير الإبراهيمي، والعربي بن مهيدي، كانت صور مالك بن نبي تنافس في قائمة الشرف بقوة؛ حيث برزت تجمعات طلبة الجامعات لإحياء الفكرة "البنابية".

 



في عديد المدن الجزائرية، وخاصة عاصمة الحراك برج بوعريريج، كانت منشورات وأفكار مالك بن نبي توزع على المتظاهرين بالمئات أسبوعيا، لتبث وعيا طالما احتاجته الجماهير في حركيتها نحو سلطة العقل، وأدوات الحضارة لأن الثورة برأي ابن نبي "لا تستطيع الوصول إلى أهدافها، إذا هي لم تغير الإنسان بطريقة لا رجعة فيها من حيث سلوكه وأفكاره وكلماته".

وقد لوحظ أن أنصار الحركة الإسلامية، سواء الإصلاحية منها أو السياسية، بدأت تسشعر مدى الجرم الممارس في حق مفكر كبير مثل ابن نبي، بسبب عدم تبني رؤاه أو ميراثه الثقافي والفكري، حتى إن المكون الإخواني في الجزائر، تجاوز نوعا ما مقاربة التوجه المشرقي لأخذ البيعة من هناك، حتى إن أكبر أحزاب الإخوان حركة "حمس"، فكت الارتباط بالبيعة العالمية للإخوان، وأن باقي تيارات الإخوان حاليا تتجه نحو تبني فكر ابن نبي وابن باديس، بديلا عن حسن البنا، على اعتبار أن الارتباطات الخارجية في الظروف الدولية الراهنة، ستجعل من هذه الأحزاب والتنظيمات في موقع الخطر، وربما التصفية في ما بعد، كما حصل ويحصل في بعض الدول العربية كمصر ودول الخليج.

عودة ابن نبي.. دليل الحاجة للعقل النقدي العربي الإسلامي

يرى الكاتب الفلسطيني المقيم بالجزائر، كفاح جرار، أن مالك بن نبي، المفكر النهضوي التجديدي الذي استوعب عصره بإسلامه، كان منظر ولادة أمة في مرحلتين عسيرتين، هي انهيار الخلافة العثمانية والتخلص من الاستعمار القديم، لكنهم حاربوه ولم يحاولوا فهمه، وربما فهموه لذلك حاربوه، وهو الأرجح.

ويفسر كفاح جرار هذه العودة إلى أحضان فكر مالك ابن نبي لـ "عربي21"، و طرح اسمه اليوم كسفينة نجاة فكرية، بأنه يؤكد الحاجة للعقل النقدي العربي الإسلامي ومحاولة فهم الواقع، ذلك أن ابن نبي لم يكن بالمفكر الحالم ولا من دعاة الماضوية، وإنما يوضح لك كيف تكون فعالا وإيجابيا وصانع واقع، يعرفك بنفسك وكيف تفكر وكيف تحقق ذاتك، وتؤكد اختلافك ولا تخجل من هذا الاختلاف. 

 


إن ظروف المرحلة ومقتضيات التغيير، بحسب كفاح جرار، تتطلب اللجوء لفكر الرجل الذي أهملناه وبشكل مريب، وتركنا للتاريخ أن يتجاوزنا، لنجد أنفسنا أمام أفكار رجل امتطى قطار العصر ومضى نحو محطات كثيرة، ثم نهضنا لنلحق به، طالبين منه أن يمد يده لكي يجذبنا نحوه، وهي محاولة حرق مراحل البؤس والتردي التي خلقتها أنظمة الاستقلالات الوطنية، بعدما فشلت في الحفاظ على المكتسبات الثورية، حتى لا أقول الإفادة مما أنجزه المستعمر من قواعد مادية وبنى قانونية ومعرفية.

ويخلص كفاح جرار إلى تشبيه مالك بن نبي بمؤطر الشخصية الوطنية العلامة عبد الحميد بن باديس، مع احترام خلافات ظروف الرجلين، والمهمات التي أنجزها كل منهما، ولذلك فإن فكر ابن نبي بإمكانه أن يعيدنا إلى الفعل التاريخي بعد جمود طال كثيرا، ذلك أنه حتى في اسم الرجل دلالة عظيمة، مالك بن نبي، وما أحوجنا لمالك يكون ابن نبي.

مباركة توجه التلفزيون الرسمي

من جانبه، اعتبر البروفيسور في القانون الدولي، فوزي أوصديق، أن عودة مالك بن نبي إلى الشارع الجزائري لم تكن بقرارات فوقية، بقدر ما كان نتاجا لحراك شعبي، متعدد المشارب، الذي ما زال يؤمن بطروحاته.

ويفسر البروفيسور فوزي أوصديق ذلك لـ "عربي21"، بأن ذلك يدل على أن موروث مالك نبي الحضاري ما زال مخزونا ويتناقل من جيل إلى آخر، حتى ترى طروحاته على أرض الواقع".

 



وبارك البروفيسور أوصديق تبني التلفزيون الرسمي مؤخرا لإحدى محاضراته، وخاصة تناول إشكالية الحضارة وآفاقها وبنائها وأسسها، وهو اعتراف وإن كان متأخرا بعظمة وعمق طروحات مالك بن نبي، وأنها ما زالت صالحة للاستعمال ولم تنته بحكم أنها تمزج بين الأصالة والمعاصرة، ويستشرف المستقبل دون الذوبان في التوجهات والفكرية المتلاطمة.

ونبه البروفيسور أوصديق إلى أن الجزائر التي تمر حاليا بمرحلة حساسة، هي بأمس الحاجة إلى أفكار ابن نبي كونها الأقرب إلى التعايش، منوها إلى أن أفكار ابن نبي جربتها عديد الدول ونجحت فيها، مثل ماليزيا وبعض دول شرق آسيا الإسلامية، وهي لذلك أقرب للنجاح في بيئتها وحاضنتها الأصلية الجزائر والبلاد العربية.

 



ماليزيا النموذج

بسؤالنا حول علاقة مالك بن نبي والحالة الماليزية، يكشف الدكتور رياض حاوي، المقيم حاليا بماليزيا، أن مالك بن نبي، رغم أنه كتب باللغة الفرنسية، ووجد صعوبة في الامتداد إلى المجال الإسلامي حيث الناطقون بلغات أخرى مثل التركية والفارسية والأردية والناطقون باللغة الإنجليزية، إلا أنه مع ذلك كان له حضور كبير في الأوساط الأكاديمية الماليزية، خاصة مع مطلع الثمانينيات عندما تأسست الجامعة الإسلامية العالمية، وبدأ الماليزيون يطلعون على أفكار مالك بن نبي.

وأوضح الدكتور حاوي رياض لـ "عربي21" أنه للأسف (في حدود علمي) لم تترجم كتب مالك بن نبي إلى المالاوية في ماليزيا، لكن ربما هناك ترجمات إلى اللغة الأندونسية، واللغة الأندونسية والمالاوية متقاربتان. كما قام الأستاذ الدكتور محمد الطاهر الميساوي من تونس وهو أستاذ محاضر في ماليزيا منذ التسعينيات بترجمة بعض كتب مالك بن نبي إلى الإنجليزية، وهذا قرب إلى حد ما فكر مالك بن نبي للمثقفين الماليزيين الناطقين باللغة الإنجليزية.

 



وعلى الرغم من كل هذه الحواجز والعوائق، يؤكد الدكتور رياض حاوي، أن الماليزيين اهتموا كثيرا بفكر مالك بن نبي، وعقد أول مؤتمر دولي بأتم معنى الكلمة حوله في جامعة مالايا الماليزية سنة 1991، وهي جامعة عريقة وتصنيفها من بين المائة جامعة الأولى في العالم. ثم امتد الاهتمام في الأوساط الأكاديمية وساهم كثير من الشباب الجزائري الذين درسوا ودرّسوا في ماليزيا بالتعريف بفكر مالك بن نبي في هذه المنطقة، وكانت هناك كثير من الرسائل التي تناولت فكر مالك بن نبي بشكل مستقل أو في أثناء دراسة ابن خلدون أو فلسفة التاريخ.

هل تتحقق نبوءة ابن نبي؟

لماذا يعود الجزائريون اليوم للبحث عن ابن نبي وعن فكره؟ الإجابة تبدو بسيطة، لأن إخفاق البدائل الإسلامية تقريبا كلها، هو الذي يفرض على الناس أن يلتفتوا إلى كنزهم المنسي. ولعل ذلك ما دفع مالك بن نبي ليطلق نبوءته المدوية قبيل وفاته، حسب رواية ابنته الدكتورة رحمة (سوف أعود بعد 30 سنة).

لقد حذر مالك بن نبي من إفلاس الإيديولوجيات التي تحمل تناقضا مع نفسها، وهي الإيديولوجيات التي قال بأنها تحمل "الأفكار المميتة" و"الأفكار القاتلة"، كونها بعيدة عن الواقع الإسلامي، وسيكون على الشباب الإسلامي أن يدرك اليوم حقيقة التغيير الذي يسعى لتحقيقه بنفسه؛ (لأن التغيير عند ابن نبي واقع لا محالة، إن لم يأت من الداخل، فسوف يفرض من الخارج)، لكن ذلك لا يتأتى إلا بمعرفة "شروط النهضة" التي تحدث عنها بالتفصيل في كتاباته.

ربما يكون ابن نبي قد عاد فعلا، ويجلس بيننا يستمع إلى أقوالنا ويبتسم، وربما هذا عصره قد بدأ يبزغ، إذا حدث ذلك، فسيكون عصرا مختلفا بالكامل عن عصور التخلف والانحطاط التي عاشها العالم الإسلامي طويلا، ولم يجد طريقا للخلاص منها.