كتاب عربي 21

صحافة ترْفَع وأخرى تصفع

1300x600

عندما تولى بوريس جونسون زعامة حزب المحافظين البريطاني ورئاسة الحكومة البريطانية في تموز (يوليو) الماضي، تبارى مقدمو البرامج التلفزيونية الحوارية "الخفيفة" في الولايات المتحدة لإثبات أن هناك أوجه شبه بينه وبين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وإذا استثنينا حقيقة أن كليهما يمثل تيار المحافظين في بلديهما، فلا أوجه شبه بين الرجلين سوى الشكل "المبهدل"، خاصة من حيث لون شعر الراس المتطاير.

 

بين جونسون وترامب


وفيما عدا ذلك فشتان ما بين الرجلين، فجونسون خريج جامعة أوكسفورد العريقة، وكان نائبا في البرلمان وعمدةً للندن ثم وزيرا للخارجية، أي أنه تدرج في مراقي السلطة، ويملك خبرة طيبة في كيفية عمل آلياتها، بينما ترامب سوقي، بمعنى أنه لا يملك خبرة إلا في شؤون قطاع محدد في السوق (العقارات)، وبمعنى أنه ميال للكلام الفارغ الذي لا يليق بشخصية عامة، دعك من رئيس دولة.

المؤهل الذي أدخل جونسون عالم السياسة ووضعه في دائرة الضوء هو الصحافة، فقد بدأ حياته العملية مراسلا لصحيفة "تايمز"، وانتقل بعدها إلى "دايلي تلغراف" مراسلا لها في بروكسيل، وكان صاحب الصوت الجهير في تعداد مثالب بقاء بلاده في الاتحاد الأوروبي، وها هو يؤكد اليوم وهو رئيس لحكومة بلاده، أنه سيُخْرِجها من الاتحاد الأوروبي ولو بدون صفقة متفق عليها، وكانت آخر محطة صحفية لجونسون مع مجلة "ذا سبيكتيتَر" الأسبوعية.

 

رافعة لمن يمتهنونها

في الدول ذات الأنظمة الديمقراطية الراسخة، تكون الصحافة رافعة لمن يمتهنونها، بمعنى أنها تعلي شأنهم في المجتمع، وتجعلهم مؤثرين في تشكيل الرأي العام، وترتقي بالكثيرين منهم إلى المناصب السياسية والتنفيذية، وحتى في بلد مثل أرمينيا، يسعى أهله جاهدين لترسيخ التقاليد الديمقراطية في أمور إدارة شؤون البلاد، يشغل الصحفيون مقاعد عديدة في مجلس الوزراء والبرلمان.

ولكن ما من بلد في العالم يكرم الصحفيين كما بريطانيا، وما ذلك إلا لأن الحريات الصحفية فيها هي الأشد رسوخا، ويفسر هذا لماذا لجأت إليها العديد من الصحف ودور النشر العربية الناشدة لأوكسجين الحرية المهنية، ومن ثم فبريطانيا هي أكثر بلاد الله دفعا للصحفيين إلى دهاليز الحكم والسياسة.

 

في الدول ذات الأنظمة الديمقراطية الراسخة، تكون الصحافة رافعة لمن يمتهنونها


وينستون تشيرتشل أشهر رئيس وزراء بريطانيا دخل دائرة الضوء من نافذة الصحافة وبالتحديد عندما غطى حرب البوير في جنوب أفريقيا مراسلا لصحيفة "مورننغ بوست" ثم معركة كرري (1898) في شمال أم درمان، والتي انتهت باحتلال بريطانيا للسودان، والتي كان أول من أورد تفاصيل سير المعارك فيها في كتابه "حرب النهر"، وأنصف فيه المقاتلين السودانيين الذين استبسلوا بأسلحتهم البسيطة في مواجهة آلة حربية قوامها المدافع والبنادق سريعة الطلقات، بقوله "كانوا أشجع من مشى على ظهر الأرض. لم نهزمهم ولكن حطمنا قدراتهم بقوة السلاح، وربما وجدنا في تاريخ الإنسانية من ماثلهم شجاعة، ولكن قطعا لن نجد من يتفوق عليهم شجاعة".

مايكل فوت زعيم حزب العمال البريطاني الأسبق بدأ حياته محررا صحفيا في جريدة "تريبيون"، وانتقل منها إلى صحيفة "إيفننع ستاندررد"، أما نايجل لوسون الذي شغل منصب وزير مالية بريطانيا في الأعوام 1983- 1989، فقد عمل قبلها محررا في صحيفتي "فاينانشيال تايمز" و"دايلي تلغراف" ثم مجلة "سبيكتيتر"، و"إيد بولز" الذي شغل حقائب وزارية عديدة في ظل الحكومات العمالية في بريطانيا منذ 2010، عمل لسنوات في "فاينانشيال تايمز" ثم "ذا إندِبندنت".

 

حال الصحافة العربية البائس لا يعزى لعدم وجود الصحفي الحر الجسور، بل لكون البيئة السياسية العامة فيما يسمى بالعالم العربي ديكتاتورية شمولية باطشة


وما من مثال ونموذج أبلغ على مكانة الصحافة في الدول الديمقراطية، من أن شخصا مثل سارة بيلين التي قضت سنوات عديدة محررة رياضية في صحيفة محدودة الانتشار في ولاية ألاسكا الأمريكية، اكتسبت شهرة ومكانة أهلتها لتصبح عمدة مدينة صغيرة، ثم حاكما للولاية بأكملها، ليختارها جون ماكين لتخوص انتخابات الرئاسة عام 2008 لتصبح نائبة الرئيس في حال فوزه بالمنصب (وهو الأمر الذي منعتهما نتائج الاقتراع من تحقيقه).

والشاهد هو أن الصحافة في الديمقراطيات الراسخة سلطة رابعة فعلا وحقيقة، ويفسر هذا لماذا شخص نرجسي مثل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لا ينطق إلا عن الهوى، لا يرى عدوا له سوى وسائل الإعلام، وما ذلك إلا لأنه يدرك أن صحافة بلاده أقوى من البيت الأبيض من حيث التأثير على الرأي العام.

 

الصحفي العربي


وفي المقابل هناك الصحفي العربي الذي ينشأ في ظل نظام قمعي باطش طائش، ويتم ترويضه بالجزرة كي يبقى منافقا ومخاتلا، وإلا فالعصا لمن عصى، وياما أنجبت الصحافة العربية العديد من المدافعين عن الحق والحقيقة وشرف الكلمة، وياما راح كثيرون منهم في غياهب السجون أو المقاصل، وكم من صحفي عربي ارتقى إلى منصب تنفيذي رفيع، وكان مؤهله لذلك رضا السلطة عنه أو محاولتها لاسترضائه حينا قصيرا من الدهر قبل لفظه لفظ النواة (محمد حسنين هيكل نموذجا).

لا تزدهر الصحافة الحرة إلا في مناخ الحريات العامة، وبالتالي فإن حال الصحافة العربية البائس لا يعزى لعدم وجود الصحفي الحر الجسور، بل لكون البيئة السياسية العامة فيما يسمى بالعالم العربي ديكتاتورية شمولية باطشة، لا تسمح لشرفاء الصحافة بالعمل بمقتضيات المهنة، ويحرص المهيمنون على مفاصلها مطية لأهوائهم، ويكافئ الحاكم ابن ماء السماء من يرضى عنهم من الصحفيين بالعطايا، والمغضوب عليهم بالرزايا.

ولهذا صار عالم اليوم يعرف "صحفيين بلا حدود" سوى ضمائرهم المهنية، فيرتفع شأنهم رقيا وظيفيا ومجتمعيا، وصحفيين بلا حقوق يتعرضون للصفع فيتوارون، أو يهربون إلى حيث يمكنهم التنفس والتنفيس بحرية.