كتاب عربي 21

أكبر من نكسة أقل من هزيمة

1300x600

(1)

لماذا خسرنا؟!

أعرف السؤال وأحبه، ولم أعرف بعد كيف نستفيد من إجابته الصحيحة، لذلك لا أعترف ولا أحب الإجابات التبريرية التي تتداولها الأغلبية الخاسرة في زماننا، سواء كانوا من المتسرعين، أو المبررين، أو المكابرين، أو المتكيفين، أو الحمقى.

(2)

في مرحلة مبكرة من حياتي، تذوقتُ طعمَ اليقين، وسلكتُ دروبَ المجدِ عاشقا، وارتديتُ ثيابَ الفخرِ واثقا، وامتشقتُ أسلحة من كلام ومن غرام لخوض معارك الأحلام العظيمة، ولفترة من الوقت اقتنعت بتبرير الهزائم.. كونها "نكسات عابرة" وضرورات يفرضها الصراع، فمضيت أصدق الوعود، وأساهم في إقناع الآخرين بتصديقها: وطني حبيبي.. الوطن الأكبر، محو الميكروب الإسرائيلي من الجسد العربي وتحرير فلسطين من النهر إلى البحر، أمة واحدة ذات رسالة خالدة، الحرية والاشتراكية والوحدة، الرخاء والوفرة والسلام والأمن والعدل، الانفتاح والمساواة وحقوق الإنسان، العولمة والسماوات المفتوحة والحلم الليبرالي الكوني، العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، المواطنة الدستورية المُصانة في جمهورية "نور العيون"..

 

انهزم اليسار بتطلعاته النبيلة عن العدل والتشاركية وجنة الفقراء، وتكاثرت النكسات على كل الجبهات،


لكن شيئا من هذا لم يحدث، ولم يوشك أن يحدث، فكان لزاما أن أسأل نفسي وأسأل الرفاق: 

لماذا خسرنا؟!

(3)

كنت أقيس نجاحي ونجاح الآخرين بمدى ثقافتهم، ومدى تمسكهم بهذه الأعلام الأحلام، لكن الثقافة نفسها انهزمت في معركتها مع الديماغوجية وإعلام التضليل، وانهزم اليسار بتطلعاته النبيلة عن العدل والتشاركية وجنة الفقراء، وتكاثرت النكسات على كل الجبهات، وبعد سنوات قليلة من  جر العراق إلى المذبحة و"مرمطة" القومية العربية في الشوارع والمقاهي وعلى ظهور الشاشات، دخلت كهفي المنعزل في منتصف التسعينيات، وأنا أردد السؤال نفسه:

لماذا خسرنا؟! 

(4)

في مرحلة الكهف بدأت سلسلة "مقالات التماهي" التي بدأت بعنوان "نقطة الصفر"، وتضمنت أسئلة عما يحدث وعما يجب أن يكون، كما تضمنت اعترافات صريحة بالهزيمة والعجز من دون تفريط في القتال أو تنازل عن النبل والأمل في النصر وتحقيق الأهداف التي خرجت من الواقع إما إلى "عزلة الكهوف" أو "متاهات اللغة" و"زحام الأسواق"، حيث يسيطر السماسرة والمرتزقة الجوالون وباعة الزيف، وفي واحد من تلك المقالات كتبت مؤكدا بقائي في موقعي على الجبهة نفسها، في المعركة نفسها، كجندي منسي ساقط من الزمان ومن المكان:

"...أعيش في المكان نفسه منذ ربع قرن/ سافرت إلى مختلف المدن والأماكن، ولم أغادر ذاتي/ أمشي في الشوارع نفسها، منذ ربع قرن/ ضجت الشوارع، ولم أضج/ أحلم الأحلام نفسها، منذ ربع قرن/ انكسرت الأحلام، فقبضت على جمر أحلامي/ أتعرف على الأصدقاء أنفسهم، المخادعون منذ ربع قرن/ قد يغيرون أسماءهم وهيئاتهم وأساليب خداعهم، لكنني لا أغير أبدا طريقة "انخداعي"/ كما لو أنني في حالة "ريبرتوار" سرمدية على غرار عقاب آلهة الأوليمب لتوأم روحي الخفي سيزيف"

وفي كل تلك المقالات ومراجعات التماهي كنت اسأل:

لماذا خسرنا؟!

(5)

عندما خرجت من كهفي مع موجة الحراك الجديد في 2004 لم أكن مثقفا، ولم تكن في الخارج ثقافة، لم أكن يساريا ولم يكن في الخارج يسار، كان العالم يسيل، كل المفاهيم والتكوينات السياسية تسيل، فكتبت داعيا للصحوة بسذاجة العائدين من غياب: أيها اليساريون.. انهضوا أو موتوا.

فلم ينهضوا، ولم يموتوا، فقط ارتموا أكثر في أحضان الأنظمة.. كل أنواع الأنظمة (محلية وإقليمية وكونية، وحتى أنظمة ويندوز وبيزنس وتوكيلات الماركات العالمية في السلع السياسية والفكرية والحقوقية لا فرق)!

استعادت ذاكرتي الكثير من النقاشات عن غواية "المثقف والسلطة، وظللت أحصي عدد الطائرات اليسارية التي تحط في مطارات السلطة، أو التي تسقط فجأة دون سبب ظاهر، حتى أن النبيل الاشتراكي الأستاذ محمد سيد أحمد (رحمة الله عليه) فسر ذلك حسب نظرية "تعب المعادن" في كتاب بديع حاول فيه تفسير سقوط مثقفين يساريين، ليس في فراش السلطات المحلية وفقط، بل في "غواية سالومي"، حيث قطعوا راس القضية الفلسطينية والتحقوا بحفل التطبيع الصهيوني راقصين ومروجين!

 

نعيش لنقاتل، ونظل نقاتل، ثم نخسر المعركة، ليس لأن شيئا لم يحدث، بل على العكس لأننا (برغم هزيمتنا)، وجدنا بعضا من الأهداف التي قاتلنا من أجلها تتحقق


حينها خرجت من "استراحة اليقين" إلى صحراء البحث عن الطريق، وانتقلت من مخازن الإجابات إلى فضاء الأسئلة المفتوحة، ومن خنادق الأيديولوجيا المعلبة إلى حكايات الناس وتجاربهم وآمالهم الصغيرة والكبيرة وتصوراتهم عن حياتهم، ومع تلك التحولات لم يغب عن ذهني السؤال الموجع الذي طرحه "اسبارتاكوس" بعد أول هزيمة في حرب تحرير الفقراء من عبودية أسياد روما الظالمين:

لماذا خسرنا؟!

(6)

لست متحمساُ لتقديم إجابة فردية على سؤال اسبارتاكوس، لأنني متحمس أكثر للوصول إلى اعتراف جماعي بالهزيمة، وللوصول أيضا إلى رغبة جماعية في البحث عن أسباب الهزيمة، بعد أن تبين لنا مقدار الاتفاق على الأهداف التي لم تتغير منذ أيام اسبارتاكوس وقبلها وبعدها، حتى اليوم والغد، وأظنها بصياغة عالمية لن تخرج عن "الحرية والإخاء والمساواة" قومية لن تخرج عن "الحرية والاشتراكية والوحدة، وبصياغة إسلامية لن تخرج عن الحرية والعدل والاعتصام، وبصياغة ثورة يناير الإنسانية لن تخرج عن "العيش والحرية والكرامة"، وهي الصياغة الأشمل التي لا تخون التاريخ ولا تنغلق على أيديولوجيات أو تنعزل في كهوف ضيقة كالتي ندخلها ثم نخرج منها لنكرر اليوتوبيا القديمة نفسها، حسب وصف الفيلسوف الفرنسي ميجيل أبينسور في كتابه عن اليوتوبيا، أو حسب الوصف الصادق للاشتراكي الإنجليزي الحالم ويليام موريس الذي قال من قلب تجربته الحياتية:
 
نعيش لنقاتل، ونظل نقاتل، ثم نخسر المعركة، ليس لأن شيئا لم يحدث، بل على العكس لأننا (برغم هزيمتنا)، وجدنا بعضا من الأهداف التي قاتلنا من أجلها تتحقق، لكنها عندما تحققت، تبين لنا أن ما تحقق ليس إلا أهدافا زائفة، وليست الأهداف التي كنا نقصدها ونحارب من أجلها. لهذا نواصل القتال من جديد.. ربما ينصرف كثير من المحاربين يأسا أو استسلاما للزيف الذي تحقق أو لأسباب أخرى، لكن المعركة الصحيحة من أجل الهدف الصحيح سوف تستمر.. بنا أو بغيرنا

(7)

الهزيمة.. أن نتوقف عن الأمل في النصر

#قاوم

tamahi@hotmail.com