قضايا وآراء

أمريكا وإيران نفخ بلا طبخ.. ولكن

1300x600
المصريون الطيبون لا يخلون من نصاحة ونباهة، وأمثالهم الشعبية التي توارثوها جيلا بعد جيل تدلل على ذلك. ومن أمثالهم الشهيرة مثل يقول "ينفخ وما يطبخش". والمثل يشير إلى تكون حالة ما على نحو يشير الى حدوثها لكن جوهر الأمر في الحالة غير موجود أصلا وبالتالي فلن تحدث أصلا. ونحن أمام الحالة القائمة الأن في منطقة الخليج أقرب ما نكون إلى ذلك، المكونات كلها تشير الى حالة حرب لكن ليس هناك حرب ولن تكون هناك حرب،، والطرفان الرئيسيان في بؤرة الحدث يعلمان تمام العلم ذلك وهو ما يقال صراحة وعلى لسان أعلى القيادات في كلا البلدين.

أمريكا تعلم أنها لن تحارب ولن تفاوض فلم تقوم بما تقوم به؟ والحديث المعلن عن الضغوط على إيران من أجل إحضارها إلى مائدة المفاوضات يبدو ساذجا، فمن ناحية يصعب القول أننا أمام مؤامرة إيرانية/ أمريكية مشتركة يستفيد منها الطرفان، إلا أننا لا بد وأن نسأل: من المستفيد مما يحدث ويجرى من تصاعد للآزمة تقريبا كل يوم؟ إيران مستفيدة استفادة كبرى على مستوى أمنها القومي، فليس مثل الحروب أو دق طبولها قدرة في دعم الصفوف الداخلية وتعبئة المجتمع والتفاف الناس حول قيادتها.

وليس بعيدا في تاريخنا العربي ما حدث في القاهرة أيام 9 و10 حزيران/ يونيو 1967م؛ من مظاهرات مليونيه للبقاء على الزعيم الخالد. صحيح أن الشرارة الأولى كانت بفعل فاعل، لكن الاستجابة كانت تلقائية بشكل واسع، وهو ما تكرر في الخرطوم في 29 آب/ أغسطس 1967م حين ذهب نفس الزعيم لمؤتمر القمة العربى المشهور بمؤتمر اللاءات الثلاث. مجلة النيوزويك لم يفتها هذا الموقف المثير، ونشرت صورة الزعيم الخالد على غلافها وسط الجماهير الهادرة بتعليق: أهلا أيها المهزوم.

هكذا الشعوب دائما في أوقات الخطر، وهو ما أشار إليه الفيلسوف الألماني نتشه (1844-1900) بنظريته الشهيرة "عش في خطر". وبالطبع فيلسوف المثالية المطلقة هيجل  (1770-1831) لم تغب عنه هذه الرؤية، وكان يرى أن الاستعداد الدائم للحرب مثل الرياح التي تحفظ الأنهار من القاذورات والروائح النتنة.

ما تفعله أمريكا مع إيران الآن هو نفس ما فعله صدام حسين معها في قادسيته الشهيرة (22 أيلول/ سبتمبر 1980م). فقادسية صدام بدأت بمناوشات حدودية بين البلدين، وكان المفترض التوصل إلى حل سريع ينهي النزاع بأسرع وقت، لكن صدام حسين تفتحت شهيته لتنفيذ عمليات عسكرية، محاولا استثمار حالة الفوضى في إيران بعد الثورة، وحالة الصراعات الداخلية التي يخوضها الإسلاميون ضد خصومهم في الداخل. كان صدام لا زال في السنة الأولى لحكمه، وكي تكون رئيسا مهيبا تدخل التاريخ دخول الفاتحين؛ لا بد وأن تكون لك حربك الخاصة (1956- حرب السويس، 2015- حرب اليمن).

استثمر النظام الإيراني الحرب لتكريس سلطته المطلقة واستخدم حالة الطوارئ التي عاشتها إيران طوال ثماني سنوات؛ للتخلص من خصومه السياسيين، وتكريس قواعده ونشر أفكاره الخاصة لفكرة الدولة والمجتمع، وفرض آية الله الخميني (1902 – 1980) رؤيته لفكرة الدولة وولاية الفقيه ‏التي كان قد أعلنها منذ زمن طويل في كتابه الشهير "الحكومة الإسلامية"، والتي ‏مثلت انقلابا تاريخيا في تاريخ الفكر الإسلامي الشيعي.

حديث المؤامرة ليس صوابا كله وليس خطأ كله، فليس كل الظن إثم، لكن ما الذي يمكن فهمه من تصريحات الرئيس الأول للجمهورية الإسلامية الإيرانية (شباط/ فبراير 1980- حزيران/ يونيو 1981) أبو الحسن بني صدر الذي قال: كل شيء بدأ من أخذ الرهائن (يقصد رهائن السفارة الأمريكية بعد الثورة مباشرة). ويضيف أن الدراسات التي تمت منذ عام 1983 حتى الآن كلها تشير إلى ذلك احتجاز الرهائن خُطط له في أمريكا ونفذ في إيران! وما تلا ذلك مباشرة من فرض العقوبات الاقتصادية ثم الهجوم العراقي على إيران.. أبو الحسن بنى صدر هرب من إيران متخفيا في تموز/ يوليو 1981، ويعيش الآن في باريس.

 الجبهة الداخلية الإيرانية ليس متماسكة بالقدر الذي تظهره الدولة، وبها الكثير من نقاط الضعف؛ ليس فقط لتعدد القوميات (فرس وكرد وطاجيك وبلوش وعرب..) ولكن أيضا للتسلط والقهر الذي يمارسه النظام، سواء استنادا لفلسفه الفكر الشيعى الإمامي أو لطبيعة المصالح التي تخدم الدولة العميقة؛ التي تغولت وانتشرت وهيمنت على كل مقدرات السلطة.

في تموز/ يوليو 1999، انتفض الطلاب في طهران وتظاهرت أعداد كبيرة منهم ضد القمع والكبت، ومتى؟ أيام الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي.. في حزيران/ يونيو 2003 خرج الآلاف من الإيرانيين للمشاركة في مظاهرات كان يقودها طلاب في طهران ضد سيطرة المؤسسة الدينية وتغولها على شؤون الدولة.. في حزيران/ يونيو 2009 كان الموعد مع واحدة من أكبر الاحتجاجات في تاريخ الجمهورية الإسلامية (الثورة الخضراء)، ردا على فوز أحمدي نجاد وحصوله على 63 في المئة من الأصوات، متفوقا على حسين موسوىي (الوجه الإصلاحي المقبول)، وخرج الإيرانيون في مظاهرات حاشدة للتشكيك فى نزاهة الانتخابات.. وفي حزيران/ يونيو 2011 (بعد الربيع العربي)، خرجت المظاهرات الإيرانية في جميع أنحاء إيران لتحسين مستوى المعيشة. نفس الأمر حدث في 2016 و2017 و2018، وحتى بدايات هذا العام.. يتعرض النظام لغضب شعبي مكتوم ومتكاثف كأنه انقلاب حقيقي من الداخل، وبات هذا النظام يواجه مطالب شعبية موحدة في كل البلاد بمشاركة جميع القوميات والتيارات، ودار الحديث علنا عن إسقاط النظام بعد 40 عاماً من تأسيسه. ومرة أخرى: ليس مثل الحروب في تقوية الجبهات الداخلية لأي أمة من الأمم.

عبر سبع إدارات أمريكية وطوال 40 عاما؛ لم نسمع جملة إسقاط النظام الإيراني من مسؤول أمريكي، عكس ما حدث مع صدام. سمعنا فقط عن مصطلح الاحتواء المزدوج لإيران والعراق، لكن عمليا كان الأمر يختلف، كان النظام العراقي يوصف بأنه نظام لا يمكن إصلاحه وتم اعتماد خطط تنفيذية لتجميع وتأهيل المعارضة العراقية للإطاحة بالنظام وهو ما تم بالفعل عام 2003، أما إيران وكما ذكرت لم نسمع جملة الإطاحة بالنظام وأقصى ما كان.. ردع أو تحجيم النظام الذي يسيطر الأن على أربع عواصم عربية.

تعاملت أمريكا مع إيران بطيبة غير معهودة، إلى أن استطاعت طهران بناء منظومة متكاملة (اقتصادية وعسكري وأمنية)، ورتبت علاقات وطيدة مع جيرانها، ما وفر لها هامشا واسعا وحيويا للعب بالورقة الأمنية لدول الإقليم والمنطقة. كانت المسارعة إلى الإطاحة بصدام حسين، منزوع القوة والأنياب بعد حربين وحصار خانق، والذي فقد أي أمكانية لأى تهديد المخاطر مريبة ومثيرة للتساؤل، وكانت إيران على باب البيت العراقي، فسيطرت وهيمنت وأحكمت، وتقريبا قطعت صلاته مع محيطه العربي. لم تقدم أمريكا للمعارضة الإيرانية عُشر ما قدمته للمعارضة العراقية التي جُلبت وسُلًمت الحكم، ومارست (ولا تزال) أسوا تغيير ديموغرافي عرفته المنطقة بتغيير التركيبة السكانية للمحافظات السنية.

الآن وبعد تفجيرات الخميس الماضي (13 حزيران/ يونيو) في بحر عمان، والزيارات التي لا تنقطع من وإلى العاصمة الإيرانية، وتوقعات باندلاع مواجهات عسكرية.. تراجع خطاب الحرب (الموهومة) بين البلدين على حد سواء، وبالتزامن مع تصريحات لهما برغبتهما في تجنب حدوثها، مع دعوات أمريكية للجلوس إلى طاولة الحوار، وهو ما ترفضه إيران حتى اللحظة، وعلى لسان أعلى سلطة.. فاستراتيجيات ترامب تنحو باتجاه تجنب الدخول في حروب جديدة في منطقة الشرق الأوسط، على الرغم من إرسال حاملة الطائرات إبراهام لينكولن ومجموعة من السفن الحربية المرافقة لها في الخليج العربي في 5 أيار/ مايو الماضى.

قلت في أول المقال إنه من الصعب تصور أن كل ذلك يتم بمؤامرة أمريكية/ إيرانية مشتركة، وأوضحتُ ما الذي ستجنيه إيران. أعود وأسأل: ما الذي ستجنيه أمريكا من كل ذلك، وهي لن تحارب أصلا، بغض النظر عن استدرار الأموال الخليجية التي تقول لهم إنها تحميهم من إيران، بغض النظر عن توتراتها مع الصين، وبغض النظر عن التوتر المقبل مع تركيا بعد صفقة "اس 400" بين الأخيرة وروسيا، وبغض النظر عما يحدث في ليبيا بعد أكثر من 70 يوما من فشل الفاشل دائما حفتر، وبغض النظر عن ترتيبات صفقة القرن، وبغض النظر عن علاقة ترامب بالكونجرس وعلاقته بالدولة العميقة في أمريكا؟

 بغض النظر عن النظر نفسه!.. ترى ماذا ستستفيد أمريكا (إدارة ترامب) من حالة النفخ بلا طبخ؟!