قضايا وآراء

عن عرب أيدوا مقتلة نيوزيلندا!

1300x600

في ذروة حالة الحزن التي خيمت على مجتمعاتنا، جراء المذبحة التي ارتكبها أحد العنصريين في نيوزيلندا، وبينما كان عنصريو الغرب يجهدون في تبرئة نفسهم من الحادثة، أو على الأقل يتخفّون بعيدا عن الإعلام وتجاهل الحدث، أطلت رؤوس عربية تعلن تأييدها للقاتل، وتعتبر أنه يمثلها، بل وتطلب المزيد من هذه الأفعال.

وعلى مدار أيام أعقبت الحادثة، شهدت ساحة وسائل الاتصال الاجتماعي ظهور العديد من هذه الأصوات، تعلن تأييدها للجريمة بنبرة متشفّية وثأرية، لدرجة تدفع للتساؤل عن الذنب الذي ارتكبه أولئك القتلى بحق هؤلاء؛ ليكون موقفهم منهم على هذه الشاكلة.

ربما لم يتم رصد الكثير من هذه الأصوت، لكن حجم الإعجاب والتأييد الذي لاقته، يكشف حقيقة أن عدم الجرأة والخوف من العواقب ربما منع ظهور أعداد أكبر من هذه الفئة، إذا جاز تسميتهم بذلك، كما أن بعضهم داور على الموضوع واعتبر أن العرب ذبحوا من بعضهم أكبر بكثير من رقم الخمسين قتيلا في نيوزيلندا، فلماذا كل هذه المبالغة والتفجع؟!

 

الإعجاب والتأييد الذي لاقته، يكشف حقيقة أن عدم الجرأة والخوف من العواقب ربما منع ظهور أعداد أكبر من هذه الفئة، إذا جاز تسميتهم بذلك، كما أن بعضهم داور على الموضوع

من هؤلاء؟ وما هي انتماءاتهم السياسية وتوجهاتهم الثقافية؟ بات الأمر يستحق معرفة هذه الفئة أو التيار أو هذه الظاهرة، وخاصة أنها ليست وليدة جريمة نيوزيلندا، فقد قطعت شوطا زمنيا منذ ظهورها؛ الذي كان صريحا ومباشرا في أثناء حملة الإبادة التي قام بها نظام الأسد وداعموه في سوريا، وكذلك في تأييدها للحاكم العسكري المصري عبد الفتاح السيسي، وعدائها الفج لعرب الخليج.

وثمة سؤال آخر: إلى أي مدى يمكن ربط هذه الفئة بتيارات اليمين المتطرف في الغرب، وخاصة أنها تتقاطع معها في الكثير من السلوكيات والأفكار: كرهها للإسلام، وتعاليها وتشاوفها، وإن كان المتطرفون في الغرب يختلفون بنقطة أساسية عن عناصر الظاهرة العربية؛ بأن أولئك الغربيين يحترمون مجتمعاتهم وقومياتهم، وهم عنصريون تجاه الآخر الخارجي، فيما نظراؤهم العرب يحتقرون أبناء قوميتهم، لدرجة تدفعهم للشماتة بكوارثهم ومآسيهم!

يرجع تاريخ ظهور هذه الفئة إلى مرحلة اشتعال ثورات الربيع العربي. وفي البداية، أخفوا مواقفهم بالتذرع بحجج واهية، من نوع أن هذا الربيع تقوده الحركات الإسلامية التي هم على نقيض منها تماما، كما زعموا أن هذه الثورات مدعومة من دول الخليج، وأين تكون دول الخليج يكونون هم في المكان المقابل، وبالإضافة طبعا لادعائهم بأن الثائرين، حتى لو بلغوا الملايين، ليسوا سوى خونة هدفهم تقسيم البلدان وتمزيق وحدة الشعوب.

 

يرجع تاريخ ظهور هذه الفئة إلى مرحلة اشتعال ثورات الربيع العربي. وفي البداية، أخفوا مواقفهم بالتذرع بحجج واهية، من نوع أن هذا الربيع تقوده الحركات الإسلامية

ومن الواضح أن هؤلاء كانوا خليطا من يساريين وقوميين، وبعض الحاقدين على العرب، ووجدوا في ثورات الربيع العربي فرصة للظهور والتعبير عن مواقفهم الحقيقية تجاه قضايا الحرية والدولة المدنية والديمقراطية. وقد اعتبروا أن هذا الأمر اعتداء على ملعبهم وتطاولا على قضايا لا يحق لغيرهم تداولها. ومثلما أن السلطة هي احتكار لأنظمة الحكم، فإن التعاطي مع قضايا سياسية واجتماعية يبقى من خصوصيتهم، ويتوارثونها عن عائلاتهم وأحزابهم، وأن أي شخص يريد التعاطي مع هذه القضايا، لا بد أن يعبر اختباراتهم الثقافية والفكرية ويصدر باسمهم.

وإذا أردنا تقييم هؤلاء من خلال سلوكهم وردات فعلهم، عبر السنوات الماضية، سنصل إلى تشخيص مفاده أن هؤلاء مطعونون في كبريائهم، ومخذولون من الصورة التي كونوها عن أنفسهم، بعد أن عرّتهم ثورات الربيع العربي وكشفت ضآلة تـأثيرهم وعدمية فعاليتهم، ما يجعل من ردات فعلهم تظهر على شكل انتقامي وحاقد، والغريب أن طاقة الحقد هذه لا توجه للأنظمة الحاكمة التي أظهرتهم على الدوام كمنفصلين عن الواقع، بل على الشعوب وثوراتها، لما كشفته من دونية هذه الفئة وضحالتها، وكيف تجرأت هذه الشعوب على صناعة الثورات، في الوقت الذي كانت فيه هذه الفئة ما زالت مشغولة في قراءة كتب تحكي عن ثورات قامت في زمان ومكان ما.

الأمر الغريب، أن عناصر هذه الفئة، في غالبيتهم العظمى، يدّعون أنهم عبّاد القضية الفلسطينية، والمؤكد أنهم يستخدمون هذا الادعاء لإرهاب الآخرين، بحجة أن الثورات هي ابتعاد عن البوصلة التي يجب أن تكون فلسطين. كما أن الشعوب التي ثارت أضعفت جيوشها وألهتها عن مهمتها المقدّسة، تحرير فلسطين. لكن لم ينتبه هؤلاء إلى أن نظام الأسد -مثلا- قتل آلافا مؤلفة من الفلسطينيين، وأن نظام السيسي حاصر وجوّع غزة، وأن الجيوش العربية منذ نشأتها كانت تدير ظهرها لفلسطين، بل وأكثر من ذلك، لم ينتبه هؤلاء إلى حقيقة أن مجزرة نيوزيلندا كانت مذبحة للفلسطينيين أنفسهم!!

ثمة آراء تربط ظهور هذه الفئة بالتمد الروسي وتأثيراته المتصاعدة على اليمين القومي في أوروبا، لكن المشكلة أن اليمين الأوروبي متطرف ضد الأجنبي، كما أنه يتوحد مع شعوبه إزاء أي حادثة أو أزمة تتعرض لها، ولم يحصل في تاريخ الحركات القومية واليسارية، ولا أي حركة سياسية، مهما كانت طبيعة فكرها أو توجهاتها، أن يفرح أعضاؤها بموت أناس من قومهم، لا ذنب لهم سوى أنهم يحتضنون أبناءهم!