قضايا وآراء

إرهاصات الثورة.. هل تُسقط النظام بمصر؟

1300x600
وليدة الاختناقات كانت الثورة الفرنسية التي ولدت على أثر حروب متصلة خاضتها فرنسا، بالتزامن مع بذخ الملك لويس الخامس عشر، ومن بعده الملك لويس السادس عشر، الذي خلق طبقة من المنتفعين واللصوص من موظفي الدولة الكبار، والوزراء والمدراء ومن يتم تعيينهم بواسطة الملك، وعندما حلت عشية الثورة كان النظام قد فقد معظم أنصاره تقريبا، ولم ينفعه المنافقون من أبواقه، الذين يروجون للملك وحاشيته من أجل الثراء غير المشروع أو البقاء في الوظائف والحصول على الامتيازات المادية والمعنوية، ولأنهم كانوا قلة مقارنة مع الملايين المحرومة، فقد سقطوا جميعا.

تشابه غريب بين ما عاشته الثورة الفرنسية في إرهاصاتها وما تعيشه مصر الآن. فالحرب على الإرهاب التي ما انفك رأس الانقلاب يهدد بها الشعب ويروج لنفسه في الخارج، التي خلفت فقرا وجوعا وانسدادا في الحياة الاقتصادية، وجففت موارد الاقتصاد كالسياحة والاستثمارات، وباتت عبئا على الشعب الذي يُحرم من كل مقومات وطنه، مقابل بذخ الحاكم الذي يبني لنفسه مدينة يتحصن فيها مع طغمته، بمليارات الدولارات، جلب جلها من أموال القروض التي سيسدد الشعب أقساطها، بالإضافة إلى فوائدها.

لم تكن ثورة يناير المجيدة وليدة دعوة على وسائل التواصل الاجتماعي، كما يروج البعض، وإن كانت شراراتها، بل كانت نتاج تراكمات الغضب والاحتقان والنضال، أؤرخ لها من بداية عام 2004، وتحديدا مع ميلاد حركة كفاية التي تلخصت أهدافها في شعار عبقري من جملتين: "لا للتوريث... لا للتمديد"، وهو شعار ثوري بالمعنى الأيديولوجي للثورة، حيث تحمل الشعار في سويدائها لرغبة في التغيير وإسقاط النظام. وتتوالى على أثر حراك هذه الحركة الاحتجاجات والتظاهرات والضغط الذي أوصل إلى تعديل الدستور، الذي مهد لانتخابات رئاسية تعددية لأول مرة منذ انقلاب تموز/ يوليو 1952، ونزول مرشح حقيقي للمعارضة في هذه الانتخابات (أيمن نور) الذي حرك بنشاطه في أثناء حملته الانتخابية، التي طاف فيها أغلب محافظات مصر، الرفض الكامن والغضب المدفون للنظام الحاكم وعصابته، وهو ما نتج عنه هز هيبة الحاكم المسنود على دبابة عسكر يوليو، لتخرج الجماهير بعد إعلان نتيجة الانتخابات بأكبر مظاهرة عرفتها مصر وقتها وتدخل ميدان التحرير، لتنزع صور مبارك وتمزقها على مرأى ومسمع من وسائل الإعلام العالمية. ذلك الحراك الذي صحبته وقفة لا تقل شجاعة من القضاة الوطنيين المؤمنين بمبادئ العدل، والرافضين استخدامهم في لعبة سياسية أقل ما توصف بأنها قذرة؛ لتمكين غير ذي شرعية في حكم البلاد.

وتوالت الاعتصامات والتظاهرات بداية من أحداث غزل المحلة في 6 نيسان/ إبريل 2008، التي تمخضت عنها الحركة الثورية العظيمة، مرورا بتظاهرات الإخوان المسلمين الهادرة في ميدان رمسيس في العام نفسه، واعتصامات الحديد والصلب والكوك وسكر الحوميدية، وغيرها من الاعتصامات التي أرادت إحراج الحكومة وبرلمانها؛ فاختارت رصيف مجلس الشعب لإيصال رسالتها، وصولا إلى دعوة التظاهر في 25 كانون الثاني/ يناير 2011، رفضا للقمع المستمر، والاستهانة بأرواح المصريين الذين حُصدت أرواحهم في القطارات والعبّارات، خلال تلك الفترة والممتدة على مدى ست سنوات وما قبلها.

إن الأجواء التي تعيشها مصر الآن تتشابه كثيرا مع ما عاشته مصر قبل ثورة يناير. فالحوادث التي تحصد أرواح الناس والفقر والجوع والمرض يضرب جذور هذا الشعب وملح أرضه، والقمع المستمر منذ الانقلاب وبطش الشرطة الذي تجاوز المعارضين إلى سائر الشعب. كل هذا يقف جنبا إلى جنب مع حنق العمال والمثقفين، الذين انضم إليهم القضاة أخيرا، مع أنباء عن تزايد الاستقالات في صفوفهم، وهو ما يحول الغضب الصامت إلى ثورة عارمة.

لكن الحقيقة التي يجب أن يفهمها الغاضبون الذين نزلوا في ميدان التحرير ورمسيس والإسكندرية ودمنهور والشرقية؛ أن الإبداع هو سيد الموقف، فإن صاحب الغاضبين الإبداع، فإن جهودهم للتغيير ستكلل بالنجاح. العالم الآن يحكمه العلم، فبالعلم وحده يمكن أن يتحرك الشارع الذي يحتاج قيادة واعية تحركه تلقي الماضي خلف ظهرها وتنظر للمستقبل، وتخرج من سرادق العزاء على ثورة ضيعها شركاؤها إلى فضاء المستقبل الذي يصنعه التغيير. فالقيادة هي أن تصنع المنح لا أن تبكي في المحن.