كتب

الإسلام السياسي في تونس.. قراءة في النشأة والتوجه (2من2)

رأت بأن المرونة السياسية لحركة النهضة وتجنبها للعنف مكنها من مواجهة محاولة الاستئصال (موقع النهضة)

الكتاب: الإسلام السياسي في تونس.. تاريخ حركة "النهضة"
المؤلفة: آن وولف
تاريخ الإصدار باللغة الإنجليزية أيار (مايو) 20017
تاريخ النشر الإلكتروني يناير 2019

ترصد الدكتورة آن وولف، المتخرجة من كوليج سانت أنتوني بجامعة أكسفورد والباحثة المشاركة في مركز الأبحاث حول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بجامعة كمبريج، في كتابها بالتفصيل المخاض العسير الذي عاشته حركة "النهضة" التونسية في مرحلة القمع السياسي، والتي عرفت طورين أساسيين: مرحلة 1956-1987، التي كان يرأسها نظام الرئيس لحبيب بوقيبة، ومرحلة ما بين 1987 ـ 2011 التي كان يدبرها نظام زين العابدين بن علي، إذ اتسمت المرحلتين برفض النظامين الترخيص القانوني لحزب النهضة، وتبني مقاربة قمعية حاصرت أعضاء النهضة وقياداتهم، بحيث تحملوا التعذيب والقمع والاعتقال في السجون والإبعاد للمنفى.

 

العنف في أدبيات "النهضة"


وتسجل الباحثة أن عنف بن علي طال عنف العائلات التونسية المنتمية لحركة "النهضة"، ولم تسلم المرأة النهضوية من الوقوع تحت طائلة التعذيب، كما تعرضت نساء قيادات "النهضة" لإغراءات مالية كثيرة لحملهن على المطالبة بالطلاق من أزواجهن، أو تقديم معلومات عن بقية المناضلين المنتمين للحركة، من الذين لم تتعرف عليهم السلطة ولم تقم باعتقالهم. 

 

 

حركة النهضة أنتجت عددا من الطرق والكيفيات التي حاولت بها ضمان وجودها واستمرارها ومقاومة استراتيجيات النظام لإفنائها

 

 

ولم تغفل الباحثة أن تقدم صورة عن أبناء مناضلي الحركة المعتقلين، وكيف لم يسلموا هم أنفسهم من قمع النظام التونسي في عهد زين العابدين بن علي، إذ كان النظام يرغمهم على ترك المدرسة أو العيش في وضعية عزلة عن المجتمع.

وكاستجابة لهذه المقاربة الأمنية القمعية المعتمدة من قبل النظام الاستبدادي التونسي، سجلت الباحثة اختيار بعض مناضلي الحركة تبني خيار العنف، وقد أوردت بهذا الخصوص بعض النماذج، من ذلك تفجير قنابل في عدد من الفنادق في منتصر وسوسة سنة 1984، إذ تم تبني العملية من قبل الجهاد الإسلامي، التي تبين أن قادتها كانوا قيادات في حركة الاتجاه الإسلامي. وأيضا محاولة مجموعة أمنية منتمية إلى الاتجاه الإسلامي قيادة انقلاب ضد نظام لحبيب بورقيبة في 30 كانون أول (ديسمبر) 1987، كما أوردت في هذا السياق أيضا عملية تم القيام بها ضد مكتب الحزب الحاكم في حي باب سويقة سنة 1991، متسببة في موت أحد الحرس.

 

إقرأ أيضا: تونس.. "النهضة" قدمت نموذجا في القبول بالآليات الديمقراطية

وبحسب الباحثة، فقد ساهم غموض الحركة في التعاطي مع هذه الأحداث، في إضعاف دعم الشعب لها، إذ ظهر بموازاة مع ذلك، تيار سلفي جديد، يقدم خطابا متشددا، حاول استقطاب الشباب اعتمادا على خطاباته المنتشرة على الانترنت والقنوات الفضائية. وقد سجلت الباحثة بهذا الخصوص صعوبة التحقيق في علاقة الحركة بالعنف في الفترة الممتدة ما بين 2000 و2008، وما وجه الحقيقة في اتهامات النظام للحركة، وما نصيبها الحقيقي من هذه العمليات، لاسيما وأن النظام التونسي كان يبحث عن ذرائع يحاول توظيفها لتبرير حالة القمع والعنف ضد الحركة ومناضليها، ولاتهامها بأنها مجموعة إرهابية لتسويغ إقصائها واستئصالها.

التكيف مع واقع القمع والاستئصال

تسجل الباحثة في سياق رصدها لتطور الحركة وسلوكها السياسي في التعاطي مع ظاهرة القمع السياسي لها، أن الحركة أنتجت عددا من الطرق والكيفيات التي حاولت بها ضمان وجودها واستمرارها ومقاومة استراتيجيات النظام لإفنائها، فنتيجة لشروط العيش غير المتحملة بين القمع والوضع تحت المراقبة، سجلت الباحثة لجوء عدد من قيادات الحركة وأعضائها للمنفى الاضطراري في أوروبا، بحيث افتتحت عددا من المكاتب في بريطانيا وفرنسا وألمانيا وسويسرا وغيرها. لكن رغم ذلك، فقد كانت هذه المكاتب تتحرك بحذر شديد، وذلك بسبب الانقسامات التي عرفتها الحركة من جهة، وأيضا بسبب التباين الجغرافي والإيديولوجي بينها.

وترى الباحثة أن واقع الصدمة الذي واجهوه، وخضوع أكثرهم لمراقبة الأجهزة الأمنية للنظام التونسي في الخارج، فضلا عن الخوف على وضع أبنائهم وعائلاتهم داخل تونس، جعل وضع هذه المكاتب مرتبكا وغير عادي. فالجرائد التي افتتحوها في الخارج، حاولت نقل رأيهم ووجهة نظرهم من الخارج، عبر جريدة "الفجر" في لندن، ومجلة "الإنسان" في باريس،  فضلا عن قناة "الزيتونة" التلفزيونية في حين حرمت الحركة من الدعم الدولي، وذلك بسبب الحرب على الإرهاب، التي انطلقت استراتيجيتها مع أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر).

في محاولات إعادة ترتيب البيت الداخلي للحركة

ترى الباحثة أن المحاولات الأولى لإعادة ترتيب وضع الحركة الداخلي في تونس بدأت في النصف الثاني من 2000. في الوقت ذاته، واستحضارا منه لضعف الحركة، فقد وافق زين العابدين بن علي على إطلاق سراح عدد من المعتقلين السياسيين المنتمين للحركة، ومن بينهم حمادي الجبالي، وعلي العريض، وأيضا عبد الحميد الجلاصي، وقد بدأت تحركات الحركة انطلاقا من الجامعات التونسية، في حين كان هامش تحرك القيادات التأسيسية الأولى محدودا بالمقارنة مع تحركات الشباب الجامعي المنتمي للحركة.
   
"النهضة" بعد الثورة: التفاوض والانفتاح والتعايش لتأمين استمرار دورها في مناخ متغير

بحسب الباحثة، فإن الحركة بعد الثورة استفادت كثيرا من مظلوميتها السياسية والاجتماعية، ومن واقع القمع الذي خضعت له من قبل نظام الجنرال بن علي، وحاولت إعادة تأسيس بنيتها التنظيمية بسرعة قياسية، كما اجتهدت في تنشيط قنواتها الاجتماعية المختلفة، بحيث التفت حولها قواعد اجتماعية واسعة، هي التي ضمنت لها تحقيق انتصار انتخابي في أول انتخابات حرة بالبلد أجريت في 23 تشرين أول (أكتوبر) 2011.

وقد لاحظت الباحثة أنه منذ المنتصف الثاني من سنة 2013، وبسبب السياق الدولي والمحلي الموسوم بظهور تنظيم الدولة الإسلامية داعش، وتفجر عدد من العمليات الإرهابية في تونس، فضلا عن تدهور الوضعية الاقتصادية للبلد، فقد اضطرت "النهضة" لتبني مقاربة تفاوضية مع شركائها وخصومها القدامى، وتحملت في سبيل هذه المقاربة كلفة ثقيلة تمثلت في انشقاق عدد من أعضاء الحركة في القاعدة، لكنها تمسكت بهذه الاستراتيجية مبررة خيارها بالمصلحة الوطنية العليا، إذ منحت هذه الحجة شرعية إضافية، للشيخ راشد الغنوشي والمقربين، ومنحتهم الإمكانية لأن يكونوا جزءا أساسيا من القوى السياسية في البلد. كما ميزتهم عن بقية الحركات الإسلامية، وبشكل خاص، حركة الإخوان المسلمين بمصر الذين تمت محاصرتهم من قبل القوات المسلحة بعد فترة قصيرة على رأس الحكم.

وتسجل الباحثة، أن حركة "النهضة"، وإلى غاية 2016، وهي تلتزم حالة من الحذر، بحكم أنها تعتقد أنها أضحت تمثل الورقة الأخيرة، بحيث أن فشلها في التدبير الحكومي وفي تحقيق إصلاحات هيكلية لتصحيح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ومحاربة الفساد، لا يعني فقط نهاية الإسلاميين واحتراق ورقتهم، وإنما يعني دخول تونس إلى المجهول...

وترى الباحثة أن هذه الظرفية، فرضت على حركة "النهضة" أن تتبنى خيار الانفتاح والتعايش والتساكن مع خصومها السياسيين، وأنها أبدا لم تغادر منهجيتها في التفاوض سواء مع مكوناتها الداخلية من جهة، أو مع حلفائها وخصومها في الخارج، إذ تستعيد هذا المفهوم الذي فصله فانسون جيسر وأيضا إيريك جوب في أدبياتهما المؤرخة بسنة 2008، وتبني عليه عددا من الخلاصات التحليلية في كتابها.

وتمثل الباحثة للجوء الحركة للتفاوض بعدد من المواقف التي اتخذتها الحركة في سياق تحولاتها وتكيفها مع الواقع السياسي، ففي ظل القمع، واقتناعا منها بالقوة التي كان يمثلها المشروع السلطوي الاستبدادي لنظام بن علي، كان بعض الإسلاميين المنفيين قد قبلوا بالفعل ترتيبات مع الرئيس السابق بن علي للعودة إلى ديارهم. 

كما سجلت الباحثة مع حلول منتصف عام 2007، تحول لغة الحزب الرسمية إلى لهجة تصالحية تجاه النظام، كما رصدت ما بعد الثورة نماذج كثيرة لانعطاف الحركة نحو التصالح والتفاوض والتعايش تحت مسمى الوحدة الوطنية والمصلحة الوطنية، وذلك لكي تفوت على خصومها أي فرصة لإبعادها عن لعب دور رئيسي في المشهد السياسي التونسي.

 

إقرأ أيضا: تونس.. الإسلاميون ينخرطون في التحالفات بديلا عن الإقصاء