كتاب عربي 21

معاوية بن أبي سفيان قائد السبسي

1300x600

في تفكيكه للمصائر التاريخية للفتنة الكبرى في تاريخ الإسلام، يخلص المؤرخ التونسي هشام جعيط إلى حقيقة مهمة لكنها فاجعة؛ مؤداها أن طوبى علي انتصرت كمرجع أخلاقي لدى المسلمين، لكن واقعية معاوية هي التي فازت بالدولة. وقد تحول الأمر إلى قانون تاريخي، فيما تبدو السياسة تتقدم على الطرف النقيض من الأخلاق. لست أستعيد كتاب الأمير لمكيافيللي، لكني أراجع سيرتي رجلين من تونس؛ انتصر أحدهما أخلاقيا وفاز الآخر بالدولة وريعها. وقد كانا ذات يوم يسيران في طريق واحدة، لكن معاوية غنِم، بينما تحول علي إلى مثال أخلاقي سام. وأعني هنا السيد أحمد المستيري والسيد الباجي قائد السبسي، رئيس الجمهورية التونسية على طريقة معاوية، مع فارق الفصاحة دون الحاجة طبعا إلى النسب القرشي، فبطاقة التعريف الوطنية عوضت علم الأنساب القديم.

شيء من التاريخ

العام 1970 عقد حزب الدستور (حزب بورقيبة) مؤتمره بمدينة المنستير، حيث يصيّف الرئيس، وكانت أصداء رسالة أحمد التليلي، الزعيم النقابي، تتردد في أوساط النخب التونسية القليلة العدد. وهي الرسالة التي حررها لبورقيبة قبل لجوئه إلى الجزار سنة 1966، والتي طالب فيها بمراجعة مسيرة بناء الدولة ودور الحزب في ذلك، بعد أن استولى الزعيم على الدولة والحزب وحولهما إلى ريع عائلي وشخصي.

ظهر في المؤتمر صوت مجموعة سياسية مختلفة عن العاملين على مرضاة الرئيس على حساب البلاد والعباد؛ يقودهم أحمد المستيري الذي كان وزيرا للداخلية غداة الاستقلال. كانت هذه المجموعة تطالب بالحريات والتعدد السياسي، وإن لم تنطق بقوة ضد زعامة الزعيم، وكان من هؤلاء الباجي قائد السبسي.

سميت المجموعة بمجموعة الأحرار، وشكلت أول نواة معارضة سياسية ديمقراطية لنظام بورقيبة، بعد أن كان قد قضى بشكل حاسم على كل نفس معارض من اليوسفيين والعروبيين، وبدأ مطاردة شباب اليسار الذي يتجمع في الجامعات ويطالب بالثورة الثقافية.

ستستمر هذه الجماعة الليبرالية في النشاط برغم محاولات الترضية، صونا لكيان الحزب وسمعة الزعيم الأب، ومنها ستخرج الرابطة التونسية لحقوق الإنسان، ولاحقا حركة الديمقراطيين الاشتراكيين، أول من بنى قاعدة خطاب الديمقراطية الاجتماعية في تونس؛ بعيدا عن ثورجية اليسار الحالم بثورة بلشفية وسياسة الرأسمالية التابعة التي كان يقودها حينها الهادي نويرة.

 

أفلح بورقيبة في اختراق المجموعة واستعاد منها الباجي قائد السبسي، إذ منحه وزارة الخارجية في حكومة محمد مزالي. وما كان أسرع قفزة الباجي عائدا إلى حضن الزعيم

كان صوت مجموعة الأحرار يرتفع وتنضم إليهم أسماء أخرى في مجال النضال الحقوقي، منهم الدكتور منصف المرزوقي، خاصة في تأسيس رابطة حقوق الإنسان. فلما كانت سنة 1980 وشروع أحمد المنستيري في تقنين وضع حركة الديمقراطيين الاشتراكيين كحزب سياسي قانوني، أفلح بورقيبة في اختراق المجموعة واستعاد منها الباجي قائد السبسي، إذ منحه وزارة الخارجية في حكومة محمد مزالي. وما كان أسرع قفزة الباجي عائدا إلى حضن الزعيم.

سنة 1981 شارك الباجي بصفته عضو حكومة في تزييف أول انتخابات تعددية شارك فيها أحمد المستيري كمعارض. وقد تبجح بذلك على شاشة الجزيرة بعد الثورة (مقابلة مع أحمد منصور)، مبررا عودته لحزب بورقيبة ولحكوماته، وقد جرب لباس المعارضة فلم يغنم منه قيراطا. واستمر في ذلك خمس سنوات هي عمر حكومة مزالي، فلما سقطت سنة 1986، اختفى الباجي في مكان ما ثم ظهر فجأة رئيسا لبرلمان ابن علي سنة (1989 - 1994)، وشرّع بتصفية حركة النهضة.

فلما أن قضى منه ابن علي وطرا، رماه خارج دوائر السلطة فنسيه الناس؛ إلا العاملون في الصفقات والمحتاجون لمكتب محاماة لا يتورع. في الأثناء، لم يوال أحمد المستيري حكومة مزالي (1980- 1986)، بل ظل يعارضها من موقع حزبي ومن موقع حقوقي وإعلامي (عبر جرائد الرأي والمستقبل والديمقراطية). وعندما حدث انقلاب ابن علي (1987) أعلن المستيري معارضته، واعتبره تخريبا لتطور العملية الديمقراطية التي تتقدم في تونس وإن ببطء شديد. ولم يوقّع على الميثاق الوطني. وإن كانت حركته السياسية قد سايرت السياق، فقد بدأ الرعب، وكان الباجي رئيس برلمان الرعب.

الثورة تستعيد الرجلين

أسقطت الثورة نظام ابن علي، وشدد الثوار عليه المطاردة والتفكيك في اعتصامي القصبة (1 و2)، حيث في الأيام الأخيرة تم تداول أسماء سياسيين مخضرمين لتولي منصب إدارة البلد مؤقتا في أفق مجلس تأسيسي تم الإجماع حوله في الاعتصام.. عاد اسم أحمد المستيري إلى السطح، وقيل فيه خير كثير. فهو رجل يحظى بقبول جماعي، وخاصة من قبل حركة النهضة التي عادت للظهور بقوة. لكن فجأة وجد التونسيون أنفسهم تحت قيادة الباجي قائد السبسي؛ وزيرا أول في حكومة انتقالية، وتساءل الناس: من جاء به؟ وحتى اللحظة لا يعرف إلا قليل من أصحاب الكواليس كيف اختفى اسم المستيري وقفز اسم الباجي. هذا لغز من ألغاز الثورة التونسية لن ينكشف سريعا.

 

فجأة وجد التونسيون أنفسهم تحت قيادة الباجي قائد السبسي؛ وزيرا أول في حكومة انتقالية، وتساءل الناس: من جاء به؟

بعد إسقاط حكومة النهضة واستجلاب حكومة تكنوقراط، عاد اسم المستيري للتداول، ولكن الباجي كان قد جمع حزب التجمع تحت يافطة جديدة اسمها النداء، فاختفى اسم المستيري. واستعمل الباجي رجلا لا علم له بالسياسة اسمه المهدي جمعة، حتى عاد رئيسا بانتخابات 2014، واعدا الناس بالجنة، فإذا هم في الجحيم. وليلة العشرين من كانون الثاني/ يناير 2019 والناس ينتظرون انصراف الباجي بعد أن فشل في استخلاف يزيد.. أعني حافظ، أعلن الباجي ترشحه لرئاسيات 2019. وفي مكان ما يقبع أحمد المستيري يحظى بالرحمات من التونسيين، إذ تذكروا الموت بذهاب أحد من مؤسسي الدولة التونسية الحديثة مصطفي الفيلالي كمثال للسياسي الخلوق، وقد غادر بهدوء.

سندروم قرطاج

زمن ابن علي، كتب صحفي يساري مقالا عن مرض قرطاج (سندروم قرطاج) عرضه إلى محاولة اغتيال فاشلة على يد ابن علي وزبانيته. خلاصة المقال، أن من دخل قصر قرطاج أصيب بهذا المرض والذي له عرض وحيد: التمسك بالكرسي حد الموت بكل السبل غير الأخلاقية. مرض قضى على بورقيبة وابن علي، وها هو يصيب الباجي، وسيخرجه من التنافس على لقب أب الديمقراطية التونسية؛ لأن التونسيين منحوا لقب أب الديمقراطية لأحمد المستيري (المثال)، فإذا معاوية (الباجي) ينافسه عليه. وقد ظن به الناس خيرا وهو يعلن حرصه على إجراء انتخابات 2011 و2014 و2019.. لم يكن حرصه إلا كحرص معاوية على استخلاص السلطة من كل العرب المسلمين لقريش ولبني أمية من قريش ولمعاوية ونسله من كل بني أمية. معاوية الجديد له يزيده، وللصدفة التاريخية حافظ يعيش من تجارة الخمر، كما عاش يزيد ثملا يصلي بالمسلمين ويقول في سجوده: اشرب واسقني، مع حفظ فارق بسيط: كان يزيد شاعرا يمكنه أن يقول "أراك طروبا والها كالمتيم.. تطوف بأكناف السّجاف المخيم"، بينما يتقن حافظ (يزيد الجديد) سب الجلالة في الاجتماعات الحزبية.. ولكل من أبيه نصيب.

 

الديمقراطية التونسية اليتيمة بحثت عن أب ولم تفلح في فرض المستيري المؤسس، فاستسلمت للباجي، فقادها إلى استخلاف يزيده


الطوبى الحزينة

ما جرنا إلى هذه المقارنة إلا حزن كبير. فعلي لا يزال ماثلا في المخيال مرجعا أخلاقيا دون تشيع، وما زال مقياسا لرجل السياسة الذي يقدم المبدأ على المنفعة.. عاش الناس في دولة معاوية يكابدون الملك العضوض ويصلون وراء علي، ويسمون أولادهم باسمه، فلم يصادفني في التاريخ من سمى باسم معاوية.

الديمقراطية التونسية اليتيمة بحثت عن أب ولم تفلح في فرض المستيري المؤسس، فاستسلمت للباجي، فقادها إلى استخلاف يزيده. وبعد شهور قليلة سيجد الناخب التونسي نفسه يقامر ثانية، مفضلا الهدوء السياسي على التقدم في طريق التغيير السياسي المؤسس لجمهورية ثانية. سيكون المستيري طوبى أخرى مغدورة بالواقعية، حيث يضطر المواطن المضطهد إلى الاختيار بين أمنه وخبزه، كما قبل يوما أن يأكل على مائدة معاوية خبزا منقوعا بدم الحسين.

وسيظل السؤال القديم معلقا: لماذا تنتصر الانتهازية على المثال الأخلاقي في بلاد العرب. توجد تفسيرات إضافية في كتب سبينوزا وايمانويل كانت، لكن سيفضل الناس دسامة مائدة معاوية الذي يوزع أرض السواد على فتيان قريش الجدد، فشظف العيش وراء الأنبياء عسير على الطبقة الوسطى.