كتاب عربي 21

حديث الستين: جرس لا يرن (3)

1300x600
(1)
لقد أصبح في سنواته الأخيرة عصبياً يصرخ أكثر مما يفكر، ويغضب أكثر مما يفعل.

هذه هي الجملة التي سأكتبها عن نفسي لو عدت للكتابة بعد الرحيل. هذا لا يعني أنني كنت أفضل في سنواتي الأولى، فالعمر كله عبارة عن رحلة طويلة من الأخطاء والنزق والتهور والإهمال ورذائل أخرى، حتى أنني لا أكاد أذكر عن نفسي أية فضائل، سوى مسلك وحيد (كان فضيلة في نظري ورذيلة في نظر الآخرين) وهو "النقد".. حرصت طول عمري على نقد الذات لتخليصها من العيوب التي أقدر على التخلص منها، ليس لتعويضها بفضائل كما يتصور الطيبون، ولكن في الغالب لاكتساب عيوب جديدة؛ لأنني أذهب لاستكشاف أرض جديدة مع كل معرفة، وبالتالي لا أعيد نفس التجارب ولا أستفيد من التكرار، وهذا هو الدافع الإيجابي الذي جعل من رحلتي على الأرض رحلة للتعلم أكثر منها رحلة للمفاخرة واصطياد المجد.

(2)
في مرحلة الدراسة الابتدائية، اشترى والدي "جرساً" للمنزل، وكنت عائدا لتوي من حصة للعلوم؛ شرح لنا فيها المدرس طريقة عمل الجرس، وكيف أن مرور التيار الكهربائي في دائرة حول قطعة من الحديد يؤدي إلى إكسابها مغنطة مؤقتة تجذب المطرقة إلى القوس المعدني فتحدث رنة، وعند الملامسة تنقطع الدائرة فتبتعد المطرقة ثم تنجذب مرة أخرى مع إغلاق الدائرة وعودة التيار، وهكذا يحدث الرنين. وقد قمت بتفكيك الجرس قطعة قطعة، وفككت الملف المكون من سلوك معدنية طويلة ومعزولة، وفشلت طبعا في تركيبها مرة أخرى، وأتلفت الجرس تماماً، ولما عرف أبي ما حدث لم يغضب، لكنه سألني تفصيلاً عن أسباب تخريب الجرس، ليحكي سعيداً لأصحابه بعد ذلك عما فعلته، وقال ليلتها جملة ظللت أحفظها: "خسرنا الجرس وكسبنا المفهومية".

(3)
مضت السنوات بالكثير من التجارب الفاشلة والتفكيك الذي لا ينتهي بتركيب، واكتشفت بعد أن كبرت أن ما فعلته بالجرس هو ما فعلته بحياتي نفسها. وفي مرحلة الثانوية العامة فوجئ أبي بأنني خربت أحلامه نفسها، فالمهندس الذي كان ينتظره في المستقبل، فكك الحلم وترك امتحانات نهاية العام واختفى من الحياة العادية، قبل أن يعود صعلوكاً فلسفيا يهتم بالأسئلة الوجودية وأسرار الحياة العميقة. وبعد فترة من الاحتجاج العنيف على الأحلام التقليدية لوالدي، استطعت إعادة بناء حياتي خارج تصورات التفاخر الاجتماعي، وخارج رؤية الآخرين التي تتصارع لتنميطي، حسب أمزجتهم. وبعدما حصلت على الثانوية العامة، لم أدرس الهندسة ولا الاقتصاد والعلوم السياسية، كما كان يتصارع الأهل، بل صممت على دراسة الفنون، وشرعت في ترجمة أحلامي وأمنياتي إلى واقع، وبدأت في تكوين مجتمع صغير يدعم أحلامي "التخريبية".. صرنا مجموعة من الأصدقاء نسعى لتحسين الحياة، ولا تزال هذه المجموعة تسمى "المجموعة" أو "مجموعة اليقظة"، وأعتبرها أعظم إنجاز حققناه معاً في السياسة وفي العمل الاجتماعي؟ لقد كنت أسمع صوت الجرس يرن طوال الوقت في رأسي، وكان هاجسي الملحّ أن أنجح دائما في إعادة تركيب الجرس بشكل سليم لكي يرن بطريقة، ولكي أفهم كيف يرن، فلا أتعامل معه كسحر مغلق، والأهم أن أستطيع إصلاحه إذا تعطل. وعرفت بعد أن كبرت أن ما فعلته بالجرس ينتمي إلى أسلوب علمي يحترم التجربة وتطبيقاتها، ويسمى "الأسلوب الإمبريقي". وكنا في ذلك الزمن السخي بالمعرفة والقدرة؛ ننادي بعضنا البعض ضاحكين: يا إمبريقي.

(4)
لي مع كل عقد من الزمن تجربة ورحلة استكشاف خاصة، بحيث إذا جمعت تلك التجارب والرحلات يمكنني منافسة عوليس في رحلة التيه الأسطورية التي كتب عنها "هومير" أوديسته، في العقد الممتد من منتصف الثمانينات إلى منتصف التسعينيات. كنت قد تخرجت في جامعة القاهرة، وكبرت "المجموعة" وامتد العمل الاجتماعي الصغير ليشمل الوطن كله.. عاقرنا السياسة والعمل الإعلامي، ونزلنا الميدان لمصارعة الكبار.. كالعادة، كانت التحديات في كل عقد تجمع بين الإرادة والنجاح في مجال، والانكسار والألم في مجال أو مجالات، وتتوزع المشاعر بين العام والخاص. وفي تلك الفترة، ساهمنا في إعادة الحركة الطلابية إلى عنفوانها، من اجتياح بيروت إلى مظاهرات سليمان خاطر، واحتجاجات الغضب ضد نظام يمارس التبعية بلا خجل في الطريق العام. وفي قلب هذه الأمواج، تعرفت على ميلان كونديرا، وذكرتني رحلة توماس في رواية "كائن.. خفته لا تحتمل" بمتاهة العقد السابق، وشعرت بخوف من فكرة التكرار و"العود الأبدي"، لم أكن أعرف الكثير عن "ربيع براغ"، ولا عن ضياع الحالمين في المجتمعات الأسيرة، ولا عن علاقة الألم بالأمل، ولا أيضا عن علاقة المستقبل بالموت، فالشيوخ يعرفون أكثر من غيرهم أن المستقبل أكثر قرباً من غيره إلى الموت (ربما لذلك ينكص الشيوخ طالبين اللجوء للماضي).

في ذلك العقد، عادت صورة أشلاء الجرس وهو عاجز عن الرنين تملأ عيني وتشغل فكري، واعتراني مرة أخرى الخجل من التفكيك، بينما كان وكلاء "جاك دريدا" يروجون للتفكيك.. بانبهار إعلاني وتبشير ما بعد حداثي. ولم أكن في ذلك الوقت منبهراً مثلهم بصيحة التفكيك، فأنا "مفككاتي" بالفطرة، ولن يبهرني دريدا بما أمارسه فعلا منذ طفولتي، لا سيما وأنني اكتشفت أن التفكيك "فعل ناقص" لأنه أتلف الجرس، فلم أحصل على المعرفة ولا على الرنين.

(5)
وسط الحيرة، قرأت دراسة لناقد فرنسي مهجور في ثقافتنا العربية، اسمه "فرانسوا ريكار"، وكان أهم ما استوقفني في تلك الدراسة هو التفرقة بين "تفكيك دريدا وأنصاره" وبين "تفكيك كونديرا"، فالثاني لا يفكك بعقلية الطفل لمجرد التفكيك، بل يفكك بعقلية المهندس، حيث يتحول التفكيك إلى مرحلة ضرورية لتيسير الإصلاح وإعادة التركيب بطريقة أفضل. وتذكرت مشهد "علي بيه مظهر" في مسلسل محمد صبحي الشهير؛ وهو يفكك جهاز التليفزيون فيخربه تماما، ويثير الفزع والسخرية واللوم في منزل خطيبته، بينما نفس المنظر لا يثير الفزع إذا رأيت جهازك على نفس الحال في ورشة للصيانة يديرها خبراء.

يومها، شعرت برغبة في الاعتذار لأبي، ويومها قررت أن أستفيد من الهندسة في تفكيري، فالهندسة ليست وظيفة في شركة، بل فكرة علمية في الحياة؛ نبني بها مجتمعاتنا ونمارس من خلالها الإصلاح والصيانة بطرق علمية تتجنب التخريب والعشوائية، لكن هل يمكن أن ينجح المهندس بمعرفته وحدها دون أدوات؟

(6)
بالتأكيد لا، فالأدوات عامل مهم في العالم الحديث، إذا لا يمكنك أن تقيس التيار الكهربائي بلا أداة، ولا يمكنك أن تفك "صامولة" أو تشيد بيتاً أو تغير وعياً أو تصنع ثورة بلا أدوات، لهذا صرت عصبيا جدا في هذه الأيام؛ لأنني "مهندس بلا أدوات"، والمهندس بلا أداة يصبح شخصاً عاجزاً أو معلماً يلقي في أذنك الدروس المعرفية من غير أي تطبيق إمبريقي، أو يصبح مثل الدكتور محمد البرادعي: واعظ أخلاقي يكتفي بتوجيه نصائح طيبة للصوص عن عرق الجبين واللقمة الحلال.

(7)
حالة الدكتور البرادعي ليست فردية، لكنها حال السياسة المصرية كلها خارج "آلة الحكم"، فالأدوات كلها في يد السلطة، بينما السياسة خارج السلطة ليست إلا سياسة الكلام والثرثرة، وإبداء الرأي إذا سمحت "آلة السلطة"، وربما تتطور السياسة خارج السلطة (ولا أقول المعارضة) إلى مرحلة تفكيك الجرس، لكنها لا تتمكن في الغالب من انجاز مهمة الرنين، وبالتالي يسهل على السلطة تسمية ذلك التفكيك بأنه "تخريب"، لأنها بكل بساطة تريد إعدام المرحلة التالية للتفكيك، وهي مرحلة التركيب السليم للأشلاء، وفق الكتالوج العلمي للدول، وليس وفق "كتالوج دولة السيسي" الذي اخترعه في أوهامه بعيدا عن تعريفات العلم ومسارات العالم الصحيحة.

والخلاصة، أننا لن نصبح "جرساً يرن" إلا إذا نجحنا في إعادة تركيب "الأشلاء" وفق كتالوج علمي سليم، ولكي ننجز هذا، لا بد من أدوات ورؤية. والمحزن المحبط أن من معهم الأدوات لا يملكون الرؤية أو يتعمدون تضبيبها، ومن معهم الرؤية لا يملكون الأدوات، ولهذا يستمر الجرس أشلاءً لا ترن.

لهذا أغضب، ولهذا أصرخ، ولهذا أفكر بإلحاح في الأدوات.

tamahi@hotmail.com