قضايا وآراء

الاقتصاد المصري "السابع عالميا" في العام 2030!!

1300x600
نشرت صحيفة الأهرام وعدد من الصحف المصرية الأخرى الأسبوع الماضي خبرا منسوبا لوكالة بلومبيرغ حول تقرير حديث لبنك "ستاندرد تشارترد" تضمن تفاؤلا كبيرا لمستقبل الاقتصاد المصري، حيث تحدث التقرير عن توقعات بأن يحتل الاقتصاد المصري المرتبة السابعة في قائمة الدول العشر الأولى للاقتصاد في العالم بحلول عام 2030، بحجم 8.2 تريليونات دولار، ليسبق بذلك روسيا واليابان وألمانيا وتسبقه الصين التي تأتي في المرتبة الأولى، فالهند فالولايات المتحدة فإندونسيا فتركيا فالبرازيل، وفق ما نشرته المواقع المصرية.

وبغض النظر عن عدم وجود هذا التقرير أصلا على الموقع الالكتروني لبلومبيرغ، فإن القراءة الأولية لهذا "التقرير "تعكس غياب الموضوعية والمصداقية في زمن بات تجميل الصورة وراءه دول لتخدير شعوبها، وتنفق الملايين من الدولارات لمراكز الأبحاث لتجميل سوءاتها، بل وإظهارها بمظر لا يتفق وواقعها ومستقبلها. إنه حينما تدلني على المدخلات أستطيع أن أقول لك ما هي المخرجات. فلننظر إلى مدخلات الاقتصاد المصري وتوقعاته المستقبلية؛ حتى نقرر أن هذا الاقتصاد سيصل إلى تلك الرتبة العالمية ويتفوق على دول مثل اليابان وألمانيا!

إن الاقتصاد المصري لا يملك بنية هيكلية تخرجه من دائرة الديون التي أدمنها، وهو اقتصاد بطبيعته اقتصاد ريعي؛ كان اعتماده الأساسي على السياحة، ولما أصابها ما أصابها، لم تحاول الحكومة إصلاح المنظومة بصورة رشيدة، فامتدت يدها تنهم من الديون حتى بات ترقيعها هو الأساس، وتضاعفت في عهد السيسي أضعافا مضاعفة لتتجاوز 5.5 تريليونات جنيه، ولا يمكن لأي اقتصاد أن يحقق نموا مستديما بدين يأكل الناتج القومي. ويكفي هنا أن أستدل على هذه السياسة التوريطية العقيمة من خلال ما تم الإعلان عنه من استمرار هذه السياسة، واتجاه وزير المالية المصري لتسويق إصدار سندات دولية بقيمة 4 إلى 7 مليارات دولار مقومة بالين واليوان والدولار واليورو، خلال الربع الأول من 2019. فلم تتوقف الديون حتى عند عملات الدولار واليورو، بل امتدت للين الياباني الذي يدّعي التقرير الذي تداولته المواقع المصرية؛ تقدم مصر على دولته، اليابان، بعد نحو 11 عاما من الآن، رغم أن اليابان اعتمدت على ذاتها في تلبية حاجتها، وتقوم على اقتصاد حقيقي يتسم بجودة المنتجات وزيادة الطلب عليها. أما الحكومة المصرية، فلم تعرف للإنتاج سبيلا، ولا للمشروعات النافعة طريقا، وسارت على نهج من يقودها بعقلية عسكرية نحو مشروعات تفاخرية تضخم من حجم الديون ولا تحقق قيمة مضافة حقيقية، وليس بعيدا عن أعيننا مشروع تفريعة قناة السويس ومشروع العاصمة الإدارية الجديدة وما فيها من مبان، في وقت يهدم الإنسان، بل ويموت من البرد في مصر.

بل الأدهى والأمر أن غذاءنا ليس بأيدينا، فكيف يكون مستقبلنا وسياسة الحكومة تحارب وتجرم زراعة القمح والأرز؟! فما زالت مناقصات الحكومة بهذا الشأن للاستيراد مستمرة، وليس آخرها ما أعلنت عنه الهيئة العامة للسلع التموينية من شراء 415 ألف طن من القمح الروسي في مناقصتين الأسبوع الماضي، وما أعلنت عنه أيضا منذ أيام، عن المناقصة الثانية لاستيراد 20 ألف طن (±10 في المئة) من الأرز قصير أو متوسط الحبة خلال العام المالي الحالي (2019/2018).

وإذا نظرنا لآخر بيانات منشورة عن ميزان المدفوعات المصري، وذلك عن الربع الأول من العام المالي الحالي، لوجدنا ارتفاع عجز الميزان التجاري إلى 9.9 مليارات دولار من 8.91 مليارات دولار، مقارنة بنفس الفترة من العام السابق، كما سجلت استثمارات الأجانب في محفظة الأوراق المالية صافي تخارج بلغ 3.2 مليارات دولار، مقابل صافي تدفقات بلغ 7.47 مليارات دولار لنفس الفترة من العام المالي الماضي، نتيجة تراجع استثمارات الأجانب في أذون الخزانة الحكومية، والتي كانت في حقيقتها أموال ساخنة من أجل العائد المرتفع بالجنيه المصري. كما تراجع صافي الاستثمار الأجنبي المباشر إلى 1.09 مليار دولار، مقارنة مع 1.84 مليار دولار قبل عام، علما بأن غالبية الاستثمارات المباشرة تصب في قطاع البترول، بعيدا عن قطاع الصناعات التحويلية التي يقوم عليها اقتصاد الدول الواعدة والمتقدمة.

إننا نؤكد وبكل قوة أنه لا يمكن لاقتصاد أن ينمو بصورة صحية إلا في بيئة صحية اقتصادية؛ تقوم على الحرية والعدالة والشفافية والإفصاح، وهو ما لا مكان له في قاموس العسكر الذين يحكمون مصر بقوة الدبابة. ولا يمكن لتلك القوة أن تبني اقتصادا، ولكنها بالطبع تبني خوفا وتخلفا، ومن بعده انفجارا. لذا، فإن هذا التقرير وأمثاله يعود بنا إلى حقيقة مهمة يعرفها رجال الاقتصاد العمليين، وهي أن علم الاقتصاد يكون مشغولا دائما بالمستقبل، ويستخدم البعض هذه الخاصية ليعرضوا آراءهم عن الاحتمالات الاقتصادية، والمتوقع اجتماعيا وسياسيا، ويذهب الآلاف للاستماع لهم والانصات لقولهم والانخداع برأيهم. وإذا حكموا العقل وتحلوا بالحكمة، فإنهم لن يصدقوا ما يقال لهم وسيضربون به عرض الحائط، وذلك لأن المؤهلات الأكثر شيوعا لمثل هؤلاء المتنبئين لا تكمن في أنهم لا يعرفون، بل في أنهم لا يعرفون أنهم لا يعرفون. وأمثال هؤلاء يعتمدون قبل كل شيء على أن جميع التنبؤات سواء كانت صحيحة أو خاطئة سرعان ما تعرف طريقها للنسيان، وهم يراهنون على ذلك، لا سيما إذا حركهم المال. وصدق الاقتصادي الكبير "كينز" حينما وصف أمثال هؤلاء وصفا دقيقا بقوله: "في الأمد الطويل، سنكون جميعا في عداد الأموات".