قضايا وآراء

خطاب بومبيو وحلف وارسو الجديد

1300x600

عشر سنوات هي المدة الفاصلة بين خطابي الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما ومايك بومبيو، وزير خارجية الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب، في القاهرة.. فارق كبير بين الخطابين من حيث الشكل والمضمون، ففي الأول حرص أعلى رأس في أمريكا أن يخاطب شعوب المنطقة من أعرق جامعاتها (جامعة القاهرة)، وأن يرسل بعض الرسائل الإيجابية، خاصة في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان.. وفي الثانية استنكف ترامب أن يتحدث بنفسه، فأرسل وزير خارجيته بومبيو ليخاطب حكام المنطقة من إحدى قلاع القوة الناعمة الأمريكية، (الجامعة الأمريكية في القاهرة)، وليعتذر لهؤلاء الحكام المستبدين عن قبول بلاده للربيع العربي، ونتائجه الديمقراطية.

اعتبر بومبيو الموقف الأمريكي الذي عبر عنه الرئيس أوباما في 2009 فهما سيئا، وقراءة خاطئة أثرت بصورة سلبية على حياة الملايين من شعب مصر وفي جميع أنحاء المنطقة!! كما عبر بومبيو في خطابه عن رؤية إدارته المتشددة تجاه عموم التيار الإسلامي الذي وصفه بالإسلام المتطرف (نلاحظ أنه لم يتحدث عن الجماعات الإرهابية هنا، وإن تحدث عنها في سياق آخر). ويا لها من رسالة دعم للثورة المضادة في مصر بقيادة عبد الفتاح السيسي (وهي رسالة تنطلق من البيت الأبيض فقط، في حين تتبنى مؤسسات أمريكية أخرى مواقف مختلفة).

وفقا لخطاب بومبيو الذي حدد معالم السياسة "الترامبية" في المنطقة، فإنها تركز على ثلاث قضايا، هي مواجهة إيران وحرب الإرهاب ودعم إسرائيل، بينما لا تهتم (ولو شكليا) بحقوق الإنسان والديمقراطية، بل إنه حين سئل في المؤتمر الصحفي عما إذا كان ناقش مع نظيره المصري سامح شكري انتهاكات حقوق الإنسان في مصر، أجاب بأنه ناقش فقط الأمور التي تهم الولايات المتحدة، أي أن تلك المسألة ليس من اهتمامات إدارته، متجاهلا وجود أكثر من 15 سجينا يحملون الجنسية الأمريكية في سجون السيسي.

 

إنها تركز على ثلاث قضايا، هي مواجهة إيران وحرب الإرهاب ودعم إسرائيل، بينما لا تهتم (ولو شكليا) بحقوق الإنسان والديمقراطية


في إطار الأولوية الخاصة بمواجهة إيران، أعلن الوزير الأمريكي عن عقد مؤتمر دولي في وارسو يومي 13 و14 شباط/ فبراير المقبل؛ دعا إليه الدول الخليجية ومصر والأردن وبعض الدول الأخرى، بهدف تأسيس حلف دولي جديد ضد إيران. وللتذكير هنا، فإن وارسو كانت هي مقر حلف وارسو الذي ضم الاتحاد السوفييتي سابقا ودول الكتلة الشرقية، وكان هو الحلف المواجه لحلف الناتو (حلف شمال الأطلسي) إبان مرحلة الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، وكأن إدارة ترامب تريد أن تقول للعالم إننا أعدنا تأسيس حلف وارسو على أن يكون هذه المرة جناحا لحلف الناتو وليس منافسا له، كما أن إدارة ترامب أسهمت في تأجيج الخلافات العربية الإيرانية؛ لتتمكن من استخدام فزاعة إيران لتخويف الدول الخليجية والعربية، ولتجبرها على تأسيس حلف مواجه لإيران، أريد له أن يكون الناتو العربي، وكان مقررا أن يعلن خلال يناير الحالي، لكن جريمة مقتل الصحفي جمال خاشقجي على يد رجال الحكم السعودي، واستمرار حصار قطر أربكا هذه الخطة، وها هي إدارة ترامب تعيد تدوير الزوايا، وتختار وارسو لإطلاق حلفها الجديد ضد إيران منها، وليحمل اسمها ربما لاحقا (ليصبح حلف وارسو الجديد).

لقد استخدمت إدارة ترامب فزاعة إيران لتستطيع جمع عرب الخليج والثورات المضادة، ولتعيد تشكيل الوعي في المنطقة؛ باعتبار إيران هي العدو المشترك، وليست إسرائيل التي يمكن أن تكون جزءا، أو على الأرجح ستكون جزءا من هذا الحلف، وإن تأخر إعلان ذلك لتكتيتكات مؤقتة، حتى يتم التمهيد الإعلامي والنفسي والسياسي لذلك، علما أن هذا التمهيد قطع شوطا لا بأس به حتى الآن، حيث لا تتوقف زيارات مسؤولين إسرائيليين لعواصم عربية لا توجد معها علاقات دبلوماسية، كما تتكرر زيارات سرية وعلنية لمسؤولين عرب إلى القدس وتل أبيب، وتصدح أصوات إعلامية عربية مؤثرة بضرورة التطبيع مع إسرائيل لمواجهة الخطر الإيراني.


استخدمت إدارة ترامب فزاعة إيران لتستطيع جمع عرب الخليج والثورات المضادة، ولتعيد تشكيل الوعي في المنطقة؛ باعتبار إيران هي العدو المشترك

ليست المرة الأولى التي تُستَغفل فيها شعوب المنطقة من قبل حكامها الذين يعملون وفقا للرؤية الأمريكية، فقد قادت المملكة العربية السعودية شعوب المنطقة والتيارات الإسلامية السنية من قبل في حملة منظمة ضد إيران، لم تكن لوجه الله، ولا نصرة لشرعه، ولكن تنفيذا لمطالب أمريكية، وتكريسا لحكم آل سعود والأنظمة القمعية العربية، ودعما لأمن إسرائيل، وها هي الولايات المتحدة تدخل بثقلها مجددا لإشعال حرب طائفية في المنطقة؛ عوضا عن انشغال أهلها بإنهاء الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين.

صحيح أن القوى السياسية السنية في المنطقة عموما لديها مشكلة كبرى مع إيران التي دعمت - ولا تزال - النظام القمعي الأسدي ضد ثورة الشعب السوري وتطلعه نحو الحرية والديمقراطية، كما دعمت الثورة المضادة في اليمن عبر جماعة الحوثي الطائفية، ولكن لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، فهذا الخلاف مع إيران سيظل قائما، ولكنه لن يكون سببا في الانحياز إلى الحلف الأمريكي الصهيوني الجديد الذي يمثل درجة أعلى من الخطورة على المنطقة كلها، وابتلاعها ضمن مشروع صهيوني. كما أن تصدير فزاعة إيران لن تنطلي على العقلاء في المنطقة، إذ أن هذا الحلف الجديد لن يقتصر على مواجهة إيران الشيعية، بل إنه سيكون في مواجهة تركيا السنية أيضا، وكذا في مواجهة حركات المقاومة السنية، وعلى رأسها حماس والجهاد وبقية الفصائل الفلسطينية، وقوى المقاومة للديكتاتوريات في عموم المنطقة.

 

هذا الحلف الجديد لن يقتصر على مواجهة إيران الشيعية، بل إنه سيكون في مواجهة تركيا السنية أيضا، وكذا في مواجهة حركات المقاومة السنية

ضمن سياستها الجديدة في المنطقة، تعتبر إدارة ترامب أن وجود مجلس تعاون خليجي موحد أمر مهم لمواجهة ايران. ومن هنا، يمكننا أن نفهم المساعي الأمريكية المتواصلة، والتي قد تتصاعد خلال الأيام المقبلة لتحقيق مصالحة بين قطر ودول الحصار العربي، لكن ليس من المؤكد أن تنجح الإدارة الأمريكية في ذلك، وهي التي تتأرجح في قراراتها، وتتخبط في سياساتها. كما أن التحركات الأمريكية لتأسيس حلف جديد موال لها يواجهه تحرك لعواصم وازنة في المنطقة؛ تتحرك بدروها لتأسيس حلف مضاد يضم روسيا وتركيا وإيران، وسيسعى لضم دول أخرى تتوافق مصالحها معه لاحقا، وقد يكون هذا الحلف أكثر إغراء لدول خليجية ليحميها من التغول السعودي الإماراتي. ولا ننسى أن مسارعة دولتي تركيا وإيران لدعم قطر في مواجهة غزو سعودي كان متوقعا في الأيام الأولى للحصار؛ وجهت رسالة قوية للدول الخليجية بأن هناك من يمكن أن يحميها بشكل أسرع من الأمريكان.