كتاب عربي 21

الإخوان وفجوة التنظيم مجددا.. النقد الذاتي (44)

1300x600
يرى البعض جملة من المزايا للتنظيم؛ يؤكد عليها كما يدفع بها كل نقيصة ترد عليه، وغالبا ما يرى هذا الاتجاه أن التنظيم لا يعاني من أوجه قصور أو اختلال، ومن ثم فإنه لا يلحظ تسرب الفجوات إلى كيان التنظيم وأدواره ووظائفه، رغم إحساس الشباب المتزايد بسطوة التنظيم من ناحية، وبعدم الفاعلية والأداء من ناحية أخرى.

وعلى الرغم من أن كثيرا من كتابات النقد الذاتي للحركة الإسلامية، ولتنظيم الإخوان على وجه الخصوص، قد أشارت إلى هذه المعضلة، إلا أن القائمين على قيادة مثل هذه التنظيميات قد لا يلقون بالا لهذا النقد، كما أنهم لا يرون فيه إلا مبالغة. كما أنه من المهم (كما يشير بعض الشباب) محاولة تبصر بعض المؤشرات حول تلك الفجوة التنظيمية التي تستند في بعض منها إلى الفجوة الجيلية؛ لارتباط بعض هذه الفجوات التنظيمية بمسألة صنع القرار، وأهل الثقة وأهل الخبرة واللوائح الرسمية التي لا تستوعب علاقات السلطة وأنماط القوة ومسائل صنع القرار والفاعلية.
نرى أن كثيرا من هؤلاء الذين يقومون على قيادة الحركات الإسلامية لا يدركون هذا التمييز المهم بين مقتضيات النظيم وإدارته؛ وبين موجبات التنظيم ومعطياتها

ومن المهم أن نفتتح الأمر الذي يتعلق بفجوة التنظيم بتلك الملاحظة المنهجية، ذلك أن مفهوم التنظيم يختلف عن مفهوم المؤسسات، فإن اهتم مفهوم التنظيم بالهياكل والسلطة الهرمية، فإن المؤسسة تهتم بالقيم المؤسسية وعلاقات القوى داخلها الرسمية وغير الرسمية. نرى أن كثيرا من هؤلاء الذين يقومون على قيادة الحركات الإسلامية لا يدركون هذا التمييز المهم بين مقتضيات النظيم وإدارته؛ وبين موجبات التنظيم ومعطياتها، وهو أمر أثر على قصور إدراكهم في التعامل مع فكرة المؤسسية وتطورها وتقاليدها التي وقفت عند مفاهيم التنظيم من خلال المسلك الإداري، وليس بتدبر القيم المؤسسية والعلاقات الشبكية داخلها. ولا شك أن هذا الأمر قد أثر على العلاقات داخل التنظيم، وقد أثر على مفهوم القيادة ذاتها، وأثر على تعاملاتها وعلاقاتها ومواقفها.

ثلاثة أجهزة (جهاز المناعة الذاتية، وجهاز المراجعة الذاتية، وجهاز التجدد الذاتي)، مشفوعة بتوابعها من أجهزة، تؤدي وظائف متعددة (التنبيه والمراقبة والمتابعة والمحاسبة، والتصحيح الذاتي والقدرة على المبادرة والمواجهة). هذه الأجهزة والوظائف يجب أن تكون موجودة في ذاتها، فعالة في وظائفها ضمن أي كيان اجتماعي أو سياسي؛ تؤمن طاقاته وتحقق فعاليته، حتى لا يصاب بالتجمد أو التكلس، أو الشلل والتبلد. هذه الكيانات الاجتماعية والمجتمعية عليها أن تتدبر أمرها في وجود واستمرارية وتطور هذه الأجهزة، وتراقب فاعلياتها وتأثيراتها على مجمل الكيان.. قدراته وإمكاناته، صحته وعافيته.

إن أزمة هذه التنظيمات، خاصة التي يمر عليها فترة طويلة من الزمن، إنما تكمن في الغفلة أو التغافل عن وجود مثل هذه الأجهزة، أو التغاضي عن أسباب فاعليتها إن وُجدت، فتصاب بحالات من الترهل أو الجمود أو التصلب، أو يصيبها قدر من العطالة المفضي إلى شللها في الواقع، وانتفاء كثير من عوامل ومصادر فاعليتها. إن نظرة متأنية ومتفحصة على وجود هذه الأجهزة في حركة الإخوان يحيلنا الى مؤشرات كثيرة؛ تؤكد أن هذه الأجهزة ليست بخير، من حيث الوجود أو الفاعلية في القيام بمهامها في التأثير والتدبير والتغيير، بل وحتى في بعض مساحات التفكير.
أزمة هذه التنظيمات، خاصة التي يمر عليها فترة طويلة من الزمن، إنما تكمن في الغفلة أو التغافل عن وجود مثل هذه الأجهزة، أو التغاضي عن أسباب فاعليتها إن وُجدت، فتصاب بحالات من الترهل أو الجمود أو التصلب

ويمكن رصد أهمِّ الأسباب التي انعكست على التنظيم، وولَّدت الأزمة داخل حركة الإخوان ومواقفها الأساسية والمفصلية. وقد أوضحت واحدة من أهم الدراسات بعد ثورة يناير 2011؛ بعض المؤشرات المهمة التي نشير إلى أهمها:

أول هذه المؤشرات يرجع الى عدم تقديم إجابات واقعيَّة مقنِعة.. تذكر واحدة من المفردات البحثية التي شكلت نموذجا ليس بالقليل ويمثل تفكير الشباب في حركة الإخوان، ممن انتظموا في حضور لقاءات الأُسَر الإخوانيَّة بعد حضورهم العلنيِّ الكثيف عقب 25 يناير، أنَّه "في هذه الفترة قد غلب الاهتمام بالسياسيِّ على حساب الدعويّ، وبحسبها تحوَّلت اللقاءات لنقاشات سياسيَّة، وترويجٍ لدعم خيارات الجماعة، دون إشراكهم بشكل فعليٍّ فيها والقرار حولها، رغم مطالبتهم بتنفيذها"، في إطار من نظرة تعبوية وحشدية.

وتضيف مفردة بحثية أخرى أنَّها دائما ما تعارض هذه القرارات؛ إذ أنَّها لم تجد أيَّ إجابات مقنعة بشأن قرارات الجماعة المتنوعة، بل وربما المتناقضة والمتخبِّطة في هذه الفترة، مثل قرار عدم خوض الانتخابات ثُمَّ التراجع عنه.

ويبدو، على ما أوردته الباحثة من نتائج في هذا المقام، أنَّ "هذه سمة عامَّة، فقد لاحظناها فيمن قابلنا جميعا، إذ أكدوا على استقلاليَّتهم في الرأي، وبناء قناعاتهم الخاصَّة بأنفسهم".

ولم يختلف الأمر كثيرا فيما بعد الانقلاب؛ إذ تقول مفردة بحثية ثالثة، والتي شاركت في مظاهرات طلَّاب ضد الانقلاب بعد أحداث الفضّ: "كنا نطرح أسئلة كثيرة في لقاءات الأسر، ولم نكن نتلقَّى جوابا مقنعا، كنا نتساءل: ماذا بعد المظاهرات؟ ما استراتيجية هذا الحراك بعد تعرضنا للقتل والاعتقال؟ ولماذا تعين نفسك وصيّا على الآخرين؟ وما معاييرك للحكم غير طول الطرحة ونمط الزي؟ وكنا نرفض الإسقاط المتعسف للنصوص القرآنية وأحداث السيرة على الواقع، فلم تكن المناهج التربوية قوية لتسند هزات الأفراد النفسية في ظل توحش الدولة وقمعها، وعدم تقديم حجج مقنعة في هذا المقام وعلى كافة التساؤلات المطروحة والمتعلقة بعالم أحداث لا يرحم في حاجة الى تفسير لا الى حالة من التبرير.
تفسير رفض الشباب للتنظيمات يرجع الى ما رآه البعض يعود إلى سوء إدارة التنظيم نفسه، وعجزه عن استيعاب تطلُّعات الشباب وتوظيف طاقاته، أو فهم تغييرات المجتمع


يوافق ما سبق ما أشار إليه "النفيسي" أثناء نقده للحركات الإسلاميَّة في نقاط عدَّة؛ منها: الإسقاط المتعسِّف للنصوص الدينيَّة على الواقع السياسيّ، وضعف المناهج التربويَّة، وأن تحوُّل العمل الإسلاميِّ إلى نشاط حزبيٍّ محض، سيحوله - أي النشاط الحزبيّ - بعد فترة إلى ميكانيكيَّة حزبيَّة تنتظر الأوامر من أعلى وتجمد حركتها الإبداعيَّة.. كما أن يُعتبر الحزب مُقدَّسا وما خارجه مُدنَّسا، فتعادي الحركة كلَّ من خرج عن الحزب، وهذا ما ترويه مفردة بحثية رابعة تمَّت معارضتها. وقد تمَّ فصل البعض لدعمهم عبد المنعم أبو الفتوح في الانتخابات الرئاسيَّة، ولرفضهم الاشتراك في حزب الحرِّيَّة والعدالة. ويذكر النفيسي أنَّ جُلَّ ما يريده التنظيم من الحركات الطلابيَّة هو استخدامهم في الحشد والتعبئة، واستفراغ طاقة أفرادها في معارك وهميَّة ضدَّ خصوم وهميِّين من الطلبة. وهذا ما أكَّدته ذات المفردة، فمع تزايد حدَّة الاستقطاب بعد انقلاب 3 تموز/ يوليو، استمرَّ خطاب الدفع بتشويه الآخر واتهامه، ومحاولة الدفع ببراءة الذات أو تبرير الأخطاء.

مؤشر آخر في هذا المقام يتمثل في طغيان الذاتيّ وسوء إدارة التنظيم؛ ذلك أنَّ تفسير رفض الشباب للتنظيمات يرجع الى ما رآه البعض يعود إلى سوء إدارة التنظيم نفسه، وعجزه عن استيعاب تطلُّعات الشباب وتوظيف طاقاته، أو فهم تغييرات المجتمع عامَّة، إلَّا أنَّه يُفسَّر كذلك بطغيان الفردانيَّة في نفوس الأفراد على حساب ما هو جمعيّ، وعدم قبول التنميط الذي يفرضه التنظيم. وهذا ما أشارت إليه إحدى مفردات البحث بقولها: "إن التنظيمات تقولب الأفراد، وتطغى على ما هو ذاتي أو مميز فيهم، وتحول الناس لأرقام واحتمالات للدعوة الفردية، وقد تؤثر على علاقات الفرد مع أفراد عائلته غير المنتمين للتنظيم بنمط سلوكه المختلف عنهم، وقد يموت جزء من إنسانيته".

تدعو التكلفةُ الباهظةُ التي يتحمَّلها الأفراد، والضررُ المترتِّب عليهم جرَّاء قرارات التنظيم وخياراته غير الواعية، إلى التساؤل عن جدوى التنظيمات، خاصَّة حينما يعجز التنظيم نفسه عن توفير الحماية له

وتدعو التكلفةُ الباهظةُ التي يتحمَّلها الأفراد، والضررُ المترتِّب عليهم جرَّاء قرارات التنظيم وخياراته غير الواعية، إلى التساؤل عن جدوى التنظيمات، خاصَّة حينما يعجز التنظيم نفسه عن توفير الحماية له، وكذلك حينما تغيب الرؤية الاستراتيجيَّة الواضحة لمسار التنظيم. وتؤكد مفردة بحثية أخرى، وهي طالبة بجامعة القاهرة، فُصِلت سنة من دراستها الجامعيَّة لمشاركتها في مظاهرات طلاب ضد الانقلاب على ذلك، أن "الوعي الفردي قد زاد بعد شعورنا بالانسحاق من أجل هدف تبين لنا فيما بعد أننا ندفع كلفته بلا مقابل، يدفعنا للسؤال: أين أنا من كل هذه الأحلام التي حملتموني إياها؟ لما يتم تسكيني في حلم لم أختره وأدفع الثمن والتكلفة بناء عليه؟".

مؤشر آخر دفع به البعض في هذا المقام، ألا وهو ما يمكن تسميته "الخوف المبهم". إذ أدَّت بعض الأحداث التي أعقبت فضَّ رابعة إلى سيطرة حالة من الخوف على كثير من الأفراد، والذين كانوا ضمن مفردات البحث في المقابلات مثل الخوف من الانفلات بعد شيوع حالة من الرِّدَّة عن الصحوة الإسلاميَّة، وما صاحبها من موجات خلع الحجاب والإلحاد، ممَّا أثار الخوف في نفوس البعض. فثَمَّ تخوُّف من استمرار الهدم في الثوابت والتفكيك، ولا يوجد ملاذ لاحتواء الأفراد من هذا الخوف السائل. وهو أمر دفع قادة التنظيم للخوف من الانفلات التنظيمي، واتخاذ قرارات التأجيل، وجعل هؤلاء من حماية التنظيم والحفاظ على وجوده من أوجب الواجبات، وهو ما أجل مهمات ملحة لا تقبل التأجيل، خاصة من الشباب الذي أحس بوطأة الأحداث.

كان ذلك من جراء ثقل وطأة التنظيم التي أدت إلى عدم التوقف البصير أمام المعطيات والمتغيرات التي كان على تلك التكوينات وهذه القيادات أن تأخذها في الحسبان

غاية الأمر في فجوة التنظيم التي نعالجها مجددا؛ أن الثورة المصرية في يناير، وكذلك الانقلاب العسكري، والأحداث التي أعقبته؛ من مجازر بلغت ذروتها في رابعة والنهضة، إنما كشفت عن هذه الفجوات التنظيمية والقيادية في حركة الإخوان، والتي أثرت على مواقفها وقرارتها، وكان ذلك من جراء ثقل وطأة التنظيم التي أدت إلى عدم التوقف البصير أمام المعطيات والمتغيرات التي كان على تلك التكوينات وهذه القيادات أن تأخذها في الحسبان، وربما كانت هذه الفجوة التنظيمية من أخطر الفجوات التي كانت معملا لإخراج أزمات أخرى إلى السطح، وكذلك شكل ذلك بيئة قابلة لإنتاج وتصدير أزمات جديدة كشفت عن عقدة جيلية بامتياز. وهذا ما سنعالجه ضمن مشاهد مختلفة وشواهد أخرى تعبر عن الفجوة الجيلية وأهم مؤشراتها.