كتاب عربي 21

مهرجان قمصان النوم!

1300x600
"إنها مصر".. مصرهم وليست مصرنا التي نعرفها. فهذه هي مصر التي تم ابتذال صفة "المفكر" فيها حتى تجرأت أستاذة جامعية؛ ووصل بها الحال إلى أن منحت عبد الفتاح السيسي اللقب، وكتبت مقالاً حمل عنوان: "السيسي مفكراً".. هكذا بدون خجل أو وجل. فعندما يُنصب فيها مهرجان مبتذل لاستعراض "قمصان النوم" ويحمل اسم "المبدعات العرب"، فلا نشاهد إبداعاً، وإنما نرى لحماً متورماً لا ينقض وضوءاً ولا يبطل صياماً، ثم يكون هذا الفعل تحت عنوان "إنها مصر"، فهذا هو الطبيعي، في زمن صار فيه السيسي مفكراً. فالمقدمات تقود إلى النتائج، وقد ألقت مصر ما فيها وتخلت!

التعيين في السلك الجامعي

عندما سألت من تكون "منى أبو سنة"، كاتبة مقال "السيسي مفكراً"، جاء الرد بأنها أستاذة للأدب الإنجليزي بجامعة القاهرة، فلم أشعر بأى انزعاج أو استغراب، فمن كتبت من قبل مقالها التاريخي تخاطب السيسي بأن يغمز بعينه، ولديها الاستعداد الكامل لأن تكون جارية في بلاطه، هي أستاذة جامعية، بكلية الطب (القصر العيني) في جامعة القاهرة، وقد انقلبت عليه الآن فتهاجمه أكثر مما نكتب ضده، ربما لأنها لم تجد على النار هدى، وربما لم تنل المراد، فلم تدع للقاءات من أبدت استعدادها للعمل جارية في بلاطه، وليس عليه إلا أن يغمز بعينيه فيأتينه سعيا، وربما أحجمت الجهة التي توجه الدعوات عن ذلك؛ لأن الدعاية فجة، وقد تحول المقال إلى أداة للفكاهة، وكان مؤذنا ببداية أسوأ المراحل التي مرت على مصر في تاريخها الحديث!

فلئن تكتب هذا المقال أستاذة جامعية، فهذا طبيعي، وبالتالي فلم تكن مفاجأة أن تكتب زميلة لها مقالاً يحمل عنوان "السيسي مفكراً" بدون أن يهتز لها رمش. ففي الحقيقة، أن لدينا مشكلة مع الأساتذة الجامعيين في مصر، الذين لم تكن السياسة مطروحة على جدول أعمالهم، بل إنهم لم يكن ليعينوا ابتداء في السلك الجامعي، إذا كانت لديهم اهتمامات سياسية. والتعيين يتم بموافقة أمنية، إذ كانت مباحث أمن الدولة هي صاحبة القول الفصل في الاختيار والترقية لزمن طويل، مع وجود عدد قليل من الأساتذة حصلوا على أحكام قضائية بتعيينهم معيدين في الجامعة، في وقت لم يكن نظام مبارك قد عرف التحايل على هذه الأحكام، ثم إهدارها في وقت لاحق، وقد بدأ خجولاً ثم انتهى به الحال غير مكترث بشيء!

ففي كلية دار العلوم مثلاً، يذكرون أن الحصول على تقدير "امتياز" فيها أمر لا يحدث كثيراً، فبعد أكثر من ثلاثين عاماً من حصول "عبد الصبور شاهين" على التقدير "امتياز"، فقد حصل عليه الدكتور "صلاح سلطان"، وفي مواجهة هذه المفاجأة، فإن الكلية لم تعلن عن تعيين معيدين لهذا العام على غير ما جرت عليه العادة، لتعوض العجز في السنة التالية من خريجي دفعة العام، رغم أنهم حاصلون على تقدير أقل، لكن القضاء الإداري أنصف سلطان، وتم تنفيذ الحكم!

وبات من المعروف أن الطالب المتفوق الذي ينتظر أن يعيّن معيداً، عليه أن يبتعد عن الاشتغال بالسياسة والاهتمام بها، حتى لا يضع عقبة لنفسه تحول دون تحقيق طموحه. ثم إن هذا الطالب لا يوجد لديه وقت للانشغال بغير المذاكرة والتحصيل العلمي، في نظام تعليمي يقوم على الحفظ والتلقين، وبمناهج مضطربة، لا تتقبلها أي عقلية نقدية!

وفي الحقيقة، فقد كان هؤلاء مشكلة بعد الثورة، لم ننتبه لها إلا بعد أن وقعت الفأس في الرأس، ومثلت واحدة من التحديات التي تعرضت لها!

عكاشة الأستاذ المعلم

لقد دفعت ثورة يناير المجتمع المصري كله، بما فيه "ربات البيوت"، للحديث في السياسة والافتاء فيها. ولم تهتم الثورة بتثقيف الناس؛ لأنها كانت تفتقد للمنابر الإعلامية. ولأنه مع هذا الانفتاح لا يجوز أن يبقى الأساتذة الجامعيون على حالهم، فكان عليهم أن يكتسبوا الوعي السياسي ممن يبدأ معهم من مرحلة "ألف باء سياسة"، لتكمن الأزمة في أنهم، وبحكم مكانتهم الوظيفية، هم الوجهاء. وكان عليهم أن يكتسبوا فهما للسياسة، فلم يأخذ بأيديهم سوى الأستاذ المعلم لهؤلاء وغيرهم، وهو "توفيق عكاشة"، الذي كان في مستوى الأميين السياسيين. وأعترف أنني فوجئت قبيل الانقلاب عندما استمعت للكثيرين يتحدثون عنه بانبهار، ويقولون قال وعاد، وكنت أستمتع له من باب التسلية والترفيه لا أكثر!

وكان طبيعيا والحال كذلك، أن نجد أساتذة جامعيين، يرددون كلام "عكاشة"، ويتماهون مع هذا الأداء السطحي، فتكتب أستاذة جامعية تطلب من السيسي أن يقبلها جارية، والطلب لن يكلفه سوى أن يغمز بعينه، ثم تكتب أخرى بعد ذلك "السيسي مفكراً"، بل وجدنا أساتذة جامعيين ضد أن تخرج السلطة من يد الضباط، ولو لواحد منهم كان أول ارتفاع للمرتبات في عهده لهم، فأنى يكون له الملك، وقد كان ضابط صغير يتحكم في مصائرهم، ويتصرف في الجامعة تصرف المالك في ما يملك!

فلا غرابة في ذلك، إن كان الناتج هو "السيسي مفكراً"، لكن الغرابة في أن المقال يمر على الصحيفة الناشرة، فلا يفزع العنوان صاحب القرار بالنشر. ففي أي زمن يصبح فيه من لم يستطع إنتاج جملة مكتملة من "فعل وفاعل ومفعول به"، مفكراً بحسب الأستاذة الجامعية "منى أبو سنة". إذ كان طبيعيا أن يمر الأمر في وسطها الأكاديمي، الذي يعاني أمية سياسية، كتلك التي يعاني منها أهل الحكم أنفسهم. وقد تفاخر السيسي بأنه ليس سياسياً، ليكون المنصب السياسي الأول يشغله فاقد لمتطلبات شغله، فإن المؤسف أن تمرر الصحف ومن يقومون عليها هذا العبث!

المهرجان الفضيحة

والحال كذلك، فإنه من الطبيعي أن يقام المهرجان الفضيحة، في محافظة الإسماعيلية، لمن أطلق عليهن "المبدعات العرب"، وتحت عنوان "إنها مصر"، في زمن صار المفرّط في التراب الوطني هو من لا يكف أبداً عن الهتاف: "تحيا مصر"، عندما يتم سد العجز في منسوب الوطنية الحقة بالشعارات والتغني بحب الوطن!

لقد شاهدنا استعراضاً لـ"القديد" بـ"قمصان النوم"، ولم نشاهد إبداعاً ثقافياً أو أدبياً. و"القديد" اللحم الذي يحفظ بطريقة بدائية من أن يفسد، وبهذا الاستعراض وقفت المكرّمات وفي أيديهن النياشين وفوق رؤوسهن شعار: "إنها مصر"، وخلفهن أسماء الصحف الراعية للمهرجان الإبداعي الكبير، فإذا هي صحف قومية وخاصة، وإذا بالمعلن أن وزارتي الشباب والرياضة والتضامن ضمن الجهات الراعية لمؤتمر "المبدعات العرب" اللاتي لا نعرف إلى الآن مجال إبداعهن، أو حتى نتمكن من الوقوف على أسمائهن. وإذا قال البعض إن بعض الصحف نفت قيامها برعاية المهرجان بعد الجهر بالمعصية، فإن وزارتي الشباب والتضامن لم تفعلا، كما لا يمكننا تصور أن هذا المهرجان عُقد في هذه المحافظة دون دراية أجهزة الأمن بها، ودون الحصول على الموافقات اللازمة لعقده. فلا شيء يمر في مصر هكذا، ولو كان فرحاً في قاعة بفندق لتوفيق رأسين في الحلال!

كان هناك تساؤل يطرحه رواد السينما قديما، هو: "قصة أم مناظر؟". والمعنى: هل الفيلم هو عمل درامي، أم يهتم أكثر بالصورة، والمشاهد الساخنة؟ فكنا أمام مهرجان مناظر، لكن ليس على النحو الذي كان يطرحه رواد السينما من المراهقين، فقد ظهرت التضاريس، واختفت معالم الأنوثة، وجرى تشويهها والإساءة إليها، ولم نشاهد أمامنا إلا كتلاً صخرية، تستوجب الستر، وتستدعي الإخفاء، لعدم ايذاء الأعين، فلسنا أمام طلباً للحشمة اتقاء للفتنة!

لقد قالوا إنهن مبدعات وقلنا لا بأس، فهذا الزمن أفرز مبدعة لا تفرق بين طه حسين وعباس محمود العقاد، ومع ذلك جرى اختيارها باعتبارها "عميدة الإبداع العربي" لتكون ضمن طاقم المفكرين والمثقفين المسؤولين عن الاحتفال بمئوية معرض الكتاب المصري، والاختيار من جهة حكومية، لكن "عميدة الإبداع العربي" لديها إنتاج على المستويين: فقد صدر لها كتاب يتيم يحمل اسمه جريمة تقع تحت طائلة القانون، ثم إنها وإن اهتمت بإبراز الأفخاذ والمفاتن، فلديها ما يُبرز، وهي تنافس أخرى في معركة "الأفخاذ" وتتحدث عن التنوير!

في الحقيقة، إن معركة "الأفخاذ" لا تخلو من تنافس حول الكلام عن التنوير، وأعتقد أننا سنكون أمام مهزلة لو جرى استضافتها في برنامج تلفزيوني للحديث عن "التنوير" و"العلمانية" و"الحداثة"، وكل ما يتصل بها بصلة، ومن المؤكد أن الإجابات ستذكرنا ببرنامج تلفزيوني قديم كان يقدمه الموهوب "أحمد حلمي" اسمه من سيربح "البونبون"، وتقوم فكرته على سؤال ضيوفه من الأطفال أسئلة صعبة، مثل رأيك في "ثقب الأوزون"؟ لتكون الإجابة فكاهية.

بيد أن سالفتي الذكر لديهما ما يُبرز في مجال السؤال "قصة أم مناظر"، فالمناظر متوفرة، دون أن يكون هناك إنتاج فكري أو أدبي يستحق الاحتفاء، لكن مهرجان "قمصان النوم" يفتقد للقصة والمناظر معا، وإن جرى افتعال "المناظر" باعتبار الأمر لا يستلزم "القصة" في زمن المثقفة الأمية التي لا تقرأ ولا تكتب، وتستنكر على المصريين عدم معرفتهم بالعقاد، فإذا بها لا تميز بينه وبين طه حسين!

إنها مصر يا قراء، مصرهم التي فيها السيسي مفكراً، والتي لم تعد تخرج إلا نكدا.