كتاب عربي 21

القصة المزدوجة لمحمد الأمير (مقالات كالفينو-2)

1300x600
(1)
رأيته فارسا على براق من لهب، بينما كان "رودي ديكر" مدير مدرسة الطيران يراه طالبا غريبا له وجه غامض كوجه الموت"، لم أعرف ذلك "الملاك الجحيمي" أبدا، وأظنني لا أعرفه حتى الآن برغم مئات المقالات وعشرات الكتب التي قرأتها عنه وعما فعله!

في ذلك الصباح الفريد كنت منهكا من السهر، أواصل العمل لليوم التالي في فيلّا صغيرة من طابقين في أحد شوارع "المهندسين" الهادئة غرب القاهرة، تركت الطابق الأرضي حيث مكاتب الصحفيين وصعدت للطابق العلوي للاستراحة قليلا، صالة هادئة ليس فيها إلا أنتريه وثير وجهاز تلفزيون. تمددت على أريكة وثيرة ودخلت في "نوم المتعبين"، وهو حالة من الغيبوبة الناعمة لا يعرفها إلا من جرب السهر الطويل حتى يغلبه النوم بطريقة استسلامية كنت أسميها "نظرية الانهيار البدني". لا أتذكر الأحلام والكوابيس والصور والأحاديث التي عشتها في فترة النوم القليلة، ما أتذكره حدث في دقائق معدودة بين النوم واليقظة، فقد سمعت أصواتا واقعية تتداخل مع أصوات الحلم، ولما فتحت عيني تدريجيا لم أجد الواقع الذي تركته قبيل نومي، لم تعد هناك أهمية للأخبار التي كنا نجهزها، ولم تتواصل الأحاديث التي كنا نتكلم فيها، تعلقت العيون كلها بشاشة التلفزيون، لمتابعة ملحمة الصدمة، حيث تحول مركز التجارة العالمي إلى شمعتين مشتعلتين بالنار والدخان والفزع والدهشة، وأسفل الشاشة تبرق عبارة يصعب توقعها ويصعب نسيانها: "أمريكا تحت الهجوم".. إنه باختصار صباح فريد، لأنه صباح فاصل بين عالمين.. إنه صباح 11 سبتمبر 2001.

(2)
من يكون "فارس البراق"؟ ولماذا رأيته ملاكا بجناحين ورآه "ديكر" وجها بشريا للموت؟

الشخص الذي أقصده بالتحديد هو محمد عطا، قائد الطائرة التي اصطدمت بالبرج الشمالي في نيويورك ضمن تفجيرات 11 سبتمبر، لكن المقال يتجاوز "نظرة التحديد" ليتناول كل إنسان يختلف الناس في النظر إليه، حتى لا نعرف من يكون، وبالتالي لا نستطيع أن نحكم عليه حكما نهائيا بالشر أو بالخير! ولأن الأمر معقد ومتداخل، علينا أن نواصل القراءة، ربما نفهم جانبا من القصة.

(3)
في البدء كانت الحرب، يذهب إليها الرجال مشبعين بزهو الفخر ويقين النصر، ثم يتغير العالم: تموت الجياد، ويترجل الفرسان فيرحلون في الغياب أو يعودون أنصافأ مشطورين، تتحول الطيور الوديعة إلي طيور جارحة تستلذ أكل لحوم البشر، بعد أن مات الزرع واختفت الخضرة وتفشي الطاعون تاركا الجثث في العراء كندوب قبيحة على وجه الأرض.

هذا الخراب المهول حكى عنه أديبنا الإيطالي الساحر "ايتالو كالفينو"، متقمصا شخصية طفل صغير مندهش عاد خاله من الحرب بنصفه الأيمن فقط، فقد انشطر "الفيكونت مداردو" إلى نصفين، وبعد عودته إلى إقطاعيته من الحرب ضد الأتراك، اكتشف الناس أن الشطر العائد هو النصف الشرير من الفيكونت، لذلك زاد بطشه بالناس.. أشعل الحرائق في القرى والمدن، وشنق الكثير من الفلاحين وسلب أراضيهم. وأثناء غزواته الهمجية قابل الفيكونت المشطورُ الحسناءَ "باميلا"، وعرض عليها الزواج، لكنها رفضت، وصارحته بأنها تكرهه كما يكرهه كل الناس، وبعد أيام فوجئ الجميع بالفيكونت يعطف على الفقراء ويعالج المرضى ويساعد العجائز، ويوصل الأطفال التائهين لبيوت أهلهم. ولم تستمر دهشة الناس طويلا؛ لأنهم اكتشفوا أن من يفعل ذلك هو النصف الأيسر من الفيكونت الذي نجا من الإصابة النادرة أيضا وعاد إلى مدينته، وبدأ الصراع بين النصفين المشطورين (الشرير والطيب) لأن كلا منهما أحب باميلا، لكن النصف الطيب من الفيكونت فاز بقلبها وتزوجها، فسعى الشطر الشرير للانتقام وحدثت بينهما مبارزة أصيبا فيها إصابات بالغة، فتدخل الطبيب لإجراء جراحة دمج فيها النصفين المشطورين في كيان واحد اجتمع فيه الخير والشر معا.

(4)
رواية كالفينو المدهشة المترجمة إلى العربية بعنوان "الفيسكونت المشطور"، هي أول عمل في ثلاثية الأجداد التي كتبها كالفينو بروح فلسفية رمزية تناسب كل زمان وكل مكان، لذلك لم يكن غريبا أن أربط بينها وبين "النظرة المزدوجة" التي بدأت بها مقالي، عن تناقض صورة وسيرة أمير النسور، قائد "غزوة منهاتن المجيدة"، "محمد عطا"، المهندس المصري الذي درس العمران ليعرف كيف ينهدم العمران ويدخل بالتاريخ بالهدم لا بالبناء.

(5)
في البدء لم يولد "محمد عطا"، فالريفي الأخضر الذي ولد في مطلع أيلول/ سبتمبر عام 1968 في محافظة كفر الشيخ (دلتا مصر)، كان اسمه "محمد محمد الأمير عوض الساجد"، وأثناء طفولته انتقل الأمير مع أسرته إلى ضاحية الهرم بالجيزة، حيث تربى تربية عادية، والتحق بكلية الهندسة جامعة القاهرة، وأحب العمران (بالمصادفة كان يقطن في حي يسمى العمرانية) وتخرج في خريف العام 1990م، عام الزلزال القومي المريب، شعر بضياع وغمام يخيم على مستقبله، وفي تلك الفترة درس اللغة الألمانية في معهد جوتة ليهيئ نفسه للرحيل من بلاد عمرانها ينهدم ومستقبلها ينعدم. وبالفعل سافر عام 1992 إلى ألمانيا، حيث التحق بجامعة "هاربورج" لدراسة التخطيط العمراني للمدن. وحسب من عرفوه، بدت عليه سمات الالتزام الديني، وكثرة الاستفسار من أساتذته، كان يسأل عن كثير من الأمور لدرجة الولع بتفاصيل التفاصيل، في الوقت الذي يدير وجهه إذا مرت فتاة أو ظهرت صورة امرأة على شاشة تلفزيون. وبعد عامين للدراسة في هامبورج، سافر إلى عدة مدن في العالم، بدأها بإسطنبول ثم حلب ثم مكة التي عاد منها إلى هامبورج ملتحيا، وانتظم في حضور الجلسات الدينية بمسجد القدس، ثم سافر إلى القاهرة بضعة شهور لدراسة عمران بعض الأحياء التاريخية، ثم عاد إلى هامبورج وتوجه (في ربيع 1996م) إلى مسجد القدس، ليس للصلاة فقط، لكن ليسجل وصيته، وعن ذلك اليوم الحادي عشر من شهر نيسان/ أبريل، قال زملاء محمد: في هذا اليوم اختفى محمد الأمير، وولد محمد عطا، غاب الشطر الأول وظهر في الوجود الشطر الثاني الذي تتجلى شخصيته واضحة في الوصية المتزمتة!

(6)
عندما طالعت وصية محمد عطا التي كشفت عنها الصحافة البريطانية قبل سنوات، أصابتني بانشطار يشبه حالة الفيكونت، وتجلى أمامي عطا كشطرين منفصلين، وهي الحالة المزدوجة التي أمقتها في هذا العالم، قد نسميها جيكل وهايد، وقد تكون أوباما وترامب، وقد تكون آل كيندي وآل بوش، وقد يكون الازدواج في الشخص ذاته، فأوباما مزدوج وبوش مزدوج وترامب مزدوج، وأنت وأنا، لكن المشكلة دائما تظل مع أي شطر نتعامل؟ وهل يكفي التعامل مع نصف مشطور من كل، لنستمر في حياتنا سالمين وآمنين وسعداء؟

تعبير "الحالة المزدوجة" يذكرني بمسرحية الإسباني الشهير بييرو باييخو "القصة المزدوجة للدكتور بالمي"، وهي قصة نفسانية محيرة تجمع بين الضحية والجلاد، بحيث نظل نسأل في غيظ: أين ينتهي الشر وأين يبدأ الخير؟ وبالمصادفات العجيبة أن القصة المزدوجة لبالمي ولدت مع محمد الأمير في نفس العام (1968) وظلت بعد غياب محمد عطا ذات نهار غامض ظهيرة 11 أيلول/ سبتمبر.

(7)
بعد متابعات تفصيلية لأخبار تفجيرات نيويورك، ظهر اسم محمد عطا كمصري شارك في التفجيرات، ووصفه الظواهري بصفة "أمير النسور"، كما وصفه ابن لادن بأوصاف جهادية وقورة تتصل بالغزوات والفخر التراثي؛ مستخدما كنيته الجديدة (أبو عبد الرحمن). وقرأت مقالا احتل خيالي وفتح مداركي كلها لتعليق صورة محمد عطا كبطل أسطوري على جدران ذاكرتي. اليوم لم أعد أذكر من المقال إلا عنوانه الذي أسرني "حصان عطا"، وكلما حاولت تذكر جملة واحدة أو اسم كاتب المقال لا أستطيع استرجاع أي معلومة إلا العنوان الموحي بعصر الفرسان. وعلى أرجح تقدير قد يكون الكاتب هو الأديب اللبناني العزيز إلياس خوري. لكن كل ذلك الوهج القديم انطفأ مع تطور الأحداث، فالعبارة التي أدهشتنا وغمرتنا بسعادة خفية ومؤقتة (أمريكا تحت الهجمات) سرعان ما جعلت من بلاد الإسلام كلها ضحية لهجمات العدوان الأمريكي العسكري أو الاقتصادي أو الإعلامي أو الثقافي والأخلاقي. والفارس الذي استطاع تحقيق معجزة بهدم "وثن الرأسمالية البغيضة"، حسب تعبير ابن لادن، كان شخصا غريب الأطوار يرى المرأة دنسا، ويتحدث في أمور ما بعد الموت بما يفصح عن رؤيته لنا وللحياة، وهذا ما يدفعني آسفا لتعريفكم ببعض ملامح الشطر الأيمن من محمد عطا الذي ذهب إلى أمريكا ليستزرع أجنحة في مدرسة طيران هافمان، ضمن تخطيط طويل المدى لعملية انتحارية لم يسقط فيها 19 انتحاريا ركبوا الطائرات، وعدة آلاف من ضحايا العاملين في برجي مركز التجارة، لكن سقط ويسقط حتى الآن مئات الأصلاف من القتلى، مقابل لحظات مختلسة من سعادة عابرة عن أمريكا التي "لن ترى الحرية ما لم نعشها واقعا في فلسطين وأفغانستان"، حسب قول بن لادن عقب التفجيرات!

(8)
لن أركز على وثيقة الليلة الأخيرة المنسوبة لعطا، والتي قدم فيها تعليمات ووصايا لزملائه من منفذي التفجيرات، ومعظمها يتضمن ألفاظا عن الذبح والسلب والغزو والمبايعة على الموت، والتنبيه المبالغ فيه على حلق شعر الجسد والتطيب والاستعداد للقاء الحور العين في الجنة، لكنني سأستعرض معكم نقاطا سريعة من وصية الموثقة في محكمة بتوقيع شاهدين، والتي تضمنت 18 نقطة بدا بتعريف نفسه:

"أنا محمد ابن محمد الأمير عوض السيد، أرغب بتنفيذ الأمور التالية بعد موتي"..

وبدأ بتسجيل العديد من الضوابط الإيمانية عن التشهد ومواصفات الكفن، وألا يحمل جثمانه أو يترحم عليه أي شخص غير مسلم، ثم يضيف: "أرفض أن يأتي إلى عزائي أو يودعني أي شخص ممن اختلفوا معي في الماضي، كما أرفض أن تودعني نساء حوامل، وأرفض أن تطلب النساء الغفران لي، وأرفض حضورهم مراسم دفني وزيارة قبري لاحقا، وعلى الذين يقومون بغسل جسدي وعورتي أن يلبسوا قفازات وأن لا يلمسوا عورتي"، ثم طلب من كل من يعرفهم أن يخشوا الله وألا يسمحوا للدنيا بأن تخدعهم.

فهل خدعت الدنيا "محمد الأمير"؟ وكيف كانت العلاقة بينه وبين شطره الأخر "محمد عطا"؟، وأيهما كان على حق: الملاك أم وجه الموت، مهندس العمران، أم خبير الهدم؟ الشطر الطيب نصير الحياة، أم الشطر الشرير نذير الموت؟

السؤال ليس لمحمد فقط، لكنه لنا جميعا، لكل المشطورين والقابلين للانشطار والدخول في حيرة الحالة المزدوجة.

الرحلة مستمرة

tamahi@hotmail.com