لا زال زلزال
مقتل المهندس سيمجناو بيكلي، مدير مشروع
سد النهضة، يوم 26 تموز/
يوليو الماضي؛ يهز أركان الدولة الإثيوبية. فالمهندس سيمجناو لم يكن مهندسا مثل
آلاف المهندسين في إثيوبيا أو خارج إثيوبيا، فهو قد شارك في بناء 12 سد إثيوبي،
منها على الأقل أربعة سدود كهرومائية، وهذا أمر لا يتوافر بسهولة لأي مهندس بأي
مكان حول العالم. ففرصة بناء "سد كهرومائي" لا تتوافر كل يوم، إلا أن
الظروف الجغرافية والمناخية والسياسية لدولة إثيوبيا تجمعت للحظة وبشكل تاريخي
لتتيح لهذا المهندس فرصة بناء 12 سدا في أقل من 25 عاما، منها سبع سنوات كمدير
لأكبر سد كهرومائي في أفريقيا.
وربما لحظة وداعه الأخيرة ودفنه بالقرب من الإمبراطور
الإثيوبي السابق (هيلاسيلاسي) توضح كيف هي مكانة هذا المهندس سيمجناو بيكلي بقلوب أبناء إثيوبيا بكل فئاته
المختلفة، عقائديا أو عنصريا. فهذا الرمز القومي جعل قلب أبناء الشعب الإثيوبي
ينبض داخل خرسانة سد النهضة، ولهذا فلن يمر مقتله دون حدوث تغيرات سياسية وفنية
تتعلق بسد النهضة. فحلم إثيوبيا بأن تصبح هي بطارية إفريقيا قد يتحول لكابوس مخيف
عندما يتم فتح كامل ملفات التحقيق في مقتل المهندس سيمجناو بيكلي.
إلا
أن التحقيق في مقتل المهندس سيمجناو لن يتم بشكل منعزل عن التحقيق في محاولة اغتيال
رئيس وزراء إثيوبيا الجديد أبي أحمد، والتي وقعت أثناء إلقائه لخطاب بأحد ميادين أديس
أبابا بداية شهر حزيران/ يونيو الماضي. أيضا لن يكون بعيدا عن تحقيقات في مقتل المدير
التنفيذي لشركة Messobo للإسمنت،
والذي تم اغتياله في أيار/ مايو الماضي أثناء رجوعه لمنزله من مكتبه القريب من سد النهضة.
ثلاث
محاولات اغتيال لشخصيات ذات علاقة بسد النهضة في ثلاثة أشهر، نجحت منها محاولتان،
ولا زالت العوامل على أرض الواقع بسد النهضة ترشح لمزيد من القلاقل وعمليات اغتيال
لشخصيات أخرى ذات علاقة.
فالمهندس سيمجناو بيكليمن ذو الأصول الأمهرية المسيحية، والذي كان يعتبر
من أهل ثقة لدى الطبقة الحاكمة لإثيوبيا منذ انتهاء الحكم الإمبراطوري بها (أي
طبقة الأقلية) من قبائل التيجراي، والتي تعتقد في نفسها أنها تنتسب لنبي الله
سليمان وتنظر بعين عنصرية دونية للأصول الأورمية المسلمة، والتي جاء منها رئيس
الوزراء الحالي أبي أحمد.
ولذلك،
يبدو أن المهندس/ سيمجناو بيكليقد حاول الخروج من الإطار "العنصري والقبلي"
الذي يسود ثقافة المجتمع الإثيوبي؛ والتصرف بوطنية أرقي وأسمي من دونية الفكر "القبلي".
ولذلك ترك مكتبه بموقع سد النهضة غاضبا قبل مقتله بيومين، متجها للعاصمة أديس أبابا،
وذلك بعد رؤيته لمكتبه يحترق بكل ما به من مستندات تدين "الطرف الثالث".
ذاك
الطرف الذي نشر
الفساد في ربوع سد النهضة وينتظر من المهندس "الأمهري المسيحي"
أن يتغاضى عن كل هذا الفساد تحت ستار "التوحد ضد الطرف المسلم"، أي رئيس
الوزراء "الأرموي" أبي أحمد. إلا أن انزعاج المهندس سيمجناو بعد حرق مكتبه في الموقع وبعد مقتل مدير
مصنع الإسمنت، المورد الرئيسي لإسمنت خرسانة سد النهضة، جعله يؤمن أنه قد دخل "عش
ثعابين التيجراي" ويجب عليه أن يحمي نفسه، وخاصة بعدما انتقد رئيس الوزراء أبي
أحمد إدارة سد النهضة خلال اجتماع له مع رؤساء الجامعات الإثيوبية، وذلك عندما صرح
بأن سد النهضة لن يكتمل قبل 10 سنوات من اليوم. فجاءت تسريبات تصريحات أبي أحمد
لتشعل غضب المهندس سيمجناو، ولذلك قرر مغادرة موقع سد النهضة والذهاب للعاصمة أديس أبابا لعقد مؤتمر صحفي في أحد
الفنادق، بهدف توضح الأمر للشعب الإثيوبي، وشرح أسباب عدم اكتمال سد النهضة على
الرغم من الوعود الحكومية المتكررة، والتي وعدت المواطن الإثيوبي بتشغيل سد النهضة
وتصدير الكهرباء منذ شهر آب/ أغسطس 2016. ومضى آب/ أغسطس 2016 ثم آب/ أغسطس 2017
ثم آب/ أغسطس 2018 دون أن يكتمل سد النهضة.
وفقا
لمصادر إثيوبية عديدة، هناك أسباب عدة تمنع إستكمال سد النهضة، إلا أنها تركز فقط
في صعوبة التركيبات الكهروميكانيكية للتروبينات الفرنسية والألمانية، حيث أن
مقاولة تركيب التوربينات والمحولات وخطوط الكهرباء قد أسندت للجهاز الهندسي للقوات
المسلحة الإثيوبية (METEC)، والذي هو بشكل
كبير يتكون من قيادات عسكرية من قبيلة "التيجراي"، وتبين أن هذا الجهاز
لا يمتلك تكنولوجيا تركيب توربينات ضخمة مثل توربينات سد النهضة، والتي تحتاج دقة تقل
عن 0.1 ميليمتر، وإلا دمرت بسبب قوة اندفاع الكتلة المائية.. بينما يتردد بين الطبقة
المثقفة الإثيوبية بأن الأمر لا يقتصر فقط على تورط (METEC)، بل أيضا في مشاكل
إنشائية بجسد سد النهضة، وذلك نتيجة تورط الصندوق الاستثماري لقبيلة التيجراي (EFFORT) في استثمارات بشركات
الإسمنت والخرسانة العاملة في موقع سد النهضة، وما نتج عن ذلك من الحصول على أموال
ضخمة لكميات كبيرة من الإسمنت والخرسانة التي تم توريدها فقط على الورق وتسببت في مشاكل
إنشائية أجبرت مصمم سد النهضة على تخفيض ارتفاعه الأصلي من 175 متر إلى 155 مترا فقط.
ولقد تأكد ذلك بشكل واضح جدا أثناء زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي السابق، ديسالين، لدولة
السودان يوم 16 آب/ أغسطس 2017، ليؤكد للرئيس البشير أنه قد نفذ كل ما يلزم لضمان سلامة
سد النهضة وتخفيض نسبة احتمالية انهياره.
يقف
اليوم مستقبل سد النهضة على مفترق طرق صعب، حيث تصر الإدارة الهندسية للقوات المسلحة
الإثيوبية على استكمال تركيب التوربينات، وذلك بعدما وافقت شركة صينية مغمورة على مساعدة (METEC) وأخذ
الثمن بالعملة الإثيوبية وليس بالدولار الأمريكي. وهذا بحد ذاته يمثل مشكلة مستقبلية
كبيرة للدولة المصرية، والتي ينتظر حصولها على بعض من مياه
النيل الأزرق عبر فتحات
تلك التوربينات المتوقع لها العطلة والتوقف كثيرا، وذلك لأن التكنولوجيا الصينية في
مجال تركيب التوربينات تعتبر "أقل خبرة" عن مثيلاتها من بيوت الخبرة الأوروبية.
وعلى
الجانب الآخر، لن تسمح "دولة التيجراي" العميقة في إثيوبيا بعمل تحقيق
شفاف تماما بشأن مقتل المهندس سيمجناو، ولذلك أسرعت بتقديم كبش
فداء يوم الجمعة الماضي، ليعترف بقتل المهندس سيمنجوا بناء على تحريض من أحد
قيادات "التيجراي"، والذي حاول كتم صوت المهندس سيمجناو
بيكلي قبل
التحدث عن المشاكل الإنشائية والكهروميكانيكية المسببة في عدم استكمال بناء سد
النهضة.
وعليه،
فالسؤال هنا: هو هل سيتم إستكمال بناء سد النهضة وافتتاحه عام 2020 كما صرح وزير
الكهرباء الإثيوبي منذ يومين؟ أم أنه سيتم افتتاحه بعد 10 سنوات، مثلما صرح رئيس وزراء
إثيوبيا الحالي أبي أحمد؟
الأمر
يتعلق تماما بجدية رئيس الوزراء الحالي "الأورموي" في مواجهة "دولة
التيجراي" العميقة، والتخلص من قبضتها على مفاصل الدولة، وخاصة بعد شعوره
بخوف منها بسبب تنازله عن مدينة "بادمي) الحدودية ذات الأغلبية من قبيلة "التيجراي"
لصالح دولة إريتريا.