كتاب عربي 21

القابلية للاستعمار: وقائع من التاريخ

1300x600
"لقد عدت بتونس في جيبي" (وزير الخارجية الفرنسي وادينغتون عائدا من مؤتمر برلين سنة 1878).

ابتدع الكاتب الجزائري مالك بن نبي منتصف القرن الماضي مفهوم "القابلية للاستعمار". تفاصيل هذه الفكرة كما يفصلها ابن نبي أعتبرها إشكالية لكن المبدأ العام الذي تستبطنه اعتبره معقولا. إذ يعني ببساطة أن هناك ظروفا موضوعية أحيانا طويلة الأمد تجعل حدث الاستعمار ليس مسألة طارئة حدثت بالصدفة أو نتاج اختلال غير منتظر ومفاجئ في موازين القوى. الاستعمار حالة تاريخية حديثة وإن تكررت فلن تكون بذات الصيغة المؤسسة في القرن التاسع عشر. لكن طيف الاستعمار بقي حاضرا حتى الآن. 

وقائع الهيمنة الاستعمارية على تونس نموذج على الظروف الموضوعية التي جعلت من حدث الاحتلال مجرد نتيجة لسيرورة طويلة الأمد. اجتمعت في "مؤتمر برلين" سنة 1878 (قبل الاحتلال الفرنسي لتونس بسنوات) القوى الأوروبية الأساسية في ضيافة بيسمارك (موحد المانيا القوة الصاعدة) لتقسيم المجال العثماني الأوروبي بعد خسارة الإمبراطورية العثمانية أمام الروس. لم تكن تونس في الأجندة الرسمية للاجتماع. لكن تم التطرق إليها على هامش الاجتماعات في مناسبتين.

- الأولى محادثة بين وزير الخارجية الفرنسي وادينجتون (Waddington) ونظيره البريطاني لورد سالينزبري (Lord of Salisbury)، وكانت كالتالي حسبما نقلها الوزير الفرنسي في تقرير لاحق. تحدث وزير الخارجية البريطاني مع الوزير الفرنسي فقال: "افعل ما يعجبك هناك". ثم أضاف: "سوف تضطر إلى أخذها.. قرطاج في أيدي البرابرة!" أجاب وادينجتون: "شكرا لك على البيان الذي أدليت به لي (...) ما يهمنا هو أن الحماية الفعلية التي نمارسها في هذا البلد يصبح معترفا بها رسمياً".

- الثانية محادثة أيضا على الهامش بين بيسمارك والسفير الفرنسي حيث اقترح عليه الأول نسيان ضم الألزاس مقابل احتلال تونس.. ووردت في تقرير الوزير الفرنسي كالتالي: عندما عاد الوزير الفرنسي إلى باريس قال لرئيس مجلس النواب الفرنسي: "لقد عدت بتونس في جيبي!".

هكذا تم التفاهم الفرنسي البريطاني الألماني على تسليم تونس لفرنسا في محادثة على الهامش، وبشكل تقريبا هزلي. لكن الفكرة الأساسية هنا أن تونس كانت أصلا في نطاق الهيمنة الفرنسية قبل احتلالها عسكريا، مع التخاذل الواضح لحاكم البلاد وهروبه من أي مواجهة أمام القوات العسكرية الفرنسية. إذ كانت "اللجنة المالية" (الكوميسيون المالي) الذي تم تنصيبها لتسيير الوضع المالي، والتي كانت تحت إشراف فرنسا وبريطانيا وإيطاليا ممثلة للمؤسسات المالية الدولية آنذاك، بمثابة التهيئة الموضوعية لحالة الهيمنة.

مقولة مالك بن نبي متركزة على القابلية الفكرية والنفسية وليس المادية، إذ يقول: "إن الاستعمار قد جاء إلى العالم الإسلامي نتيجة مرض أساسي عندنا، هو القابلية للاستعمار.. وهو نتيجة الصراع الفكرى الذي خطط له الاستعمار وأحسن إحكام الخطة.. لقد سلط الاستعمار الأضواء على المشكلات الهامشية، بينما ترك فى الظلام كل رؤية منهجية سليمة.. تفتح الطريق أمام حركة التاريخ". من المفارقات أن ابن نبي كتب كتابه بلغة المستعمر. 

بعد حوالي المئة عام، بدأنا في مسار يكرر بعضا من مظاهر هذه التهيئة والقابلية للاحتلال. نحن بصدد قراءة وثيقة عمرها بالضبط 30 سنة بالتمام والكمال (مؤرخة في أيار/ مايو 1988)، وهي مسودة رسالة باسم الحكومة التونسية موجهة إلى رئيس البنك الدولي للحصول على أحد قروض "التعديل الهيكلي الشهير"، والذي أسس لمسار القروض المتواصل حتى الآن وما تبعها من "اصلاحات". 

لكن المثير في الأمر أن الذي صاغ الوثيقة ليس الدولة التونسية، بل موظفو البنك الدولي (وتم فقط ترك تحديد اليوم بدقة من شهر أيار/ مايو لموظفي الحكومة التونسية). إذ إن الوثيقة مضمنة في وثيقة أطول أصدرها البنك الدولي حول تفاصيل القرض ومصنفة "للاستعمال الرسمي حصرا"... وتم وضع مسودة الرسالة ضمن الحزمة (package) التي تم إرسالها للحكومة التونسية. أي أنه حتى تبرير الحصول على القرض تم "اقتراضه" بالكامل من البنك الدولي… وهذا التقليد لم ينته تماما بالمناسبة.