كتاب عربي 21

لذة اشتهاء العنف (4- كوليا والوحش)

1300x600
(1)
في كل عام بعد الصوم يأتي العيد، هذا التكرار المؤكد فرصة للتذكير بقيمة الوفاء بالوعد، وقد وعدتكم في ختام المقال السابق أن أتحدث عن "كوليا" وصراعه مع الوحش (ليفياثان).. الحقيقة أنني لم أجد في نفسي حماسا كافيا للكتابة عن قصة "كوليا والوحش"، وشرعت في الكتابة عن قضية أخرى (أكثر واقعية) فرضت نفسها على تفكيري خلال الأيام الماضية، لكن "العيد" ذَكَّرَني بأن "الوفاء بالوعد" قضية أشمل وقيمة أجمل، فعدت إلى "كوليا" وأنا أردد في نفسي قول عزيز أباظة عن السد العالي: "كان حلما فخاطرا فاحتمالا.. ثم أضحى حقيقة لا خيالا"، فقد أصبح "كوليا" واقعا برغم أنه لم يولد ولم يعش في الواقع قط.

(2)
"كوليا" شخصية من ضوء، اخترعها المخرج الروسي أندريه زفياجنتسيف بعد أن استمع إلى قصة المواطن الأمريكي "مارفن هيمير"، الذي حطم كل المباني الحكومية في مدينته ثم أنهى حياته برصاصة أكدت موته الذي بدأ قبل سنوات؛ عندما دمر "وحش الدولة" كينونته وقضى على طموحه وعلى حياته نفسها. في عام 2008 كان زفياجنتسيف في زيارة إلى الولايات المتحدة، وبرغم مرور أربع سنوات على "ثورة هيمير"، إلا أن القصة كانت لا تزال ساخنة وحاضرة في ذاكرة الناس من مختلف الثقافات والطبقات، حيث استمع زفياجنتسيف في إحدى السهرات إلى تفاصيل القصة وإلى الأساطير التي ارتبطت بها، فاستولت عليه دراما الرجل العادي الذي يحلم بحياة بسيطة وأعمال صغيرة، لكن "الدولة" تعترض طريقه وتدوس أحلامه، فيتحول إلى كائن ساخط مدفوع بقوة غامضة إلى طريق وحيد هو "العنف"، وبعد عودته إلى روسيا لم يستطع أن يتخلص من سيطرة هيمير على تفكيره، وبدأ يعمل على سيناريو لتقديم القصة بأسلوبه السينمائي، لكن الكتابة استمرت خمس سنوات؛ لأن شخصية "هيمير" القوية كانت عنيدة وحاضرة بقوة، ولم يكن زفياجنتسيف يرغب في تأكيد سيطرة هيمير" ولا التركيز على رد فعله العنيف، برغم شحنة الإثارة و"الآكشن" التي تزخر بها الحادثة، لذلك سعى لتحرير القضية من مفرداتها الواقعية، ونقلها من أمريكا إلى مكان منعزل على شاطئ بحر بارينتس. وفي توضيحات نادرة على غير عادة زفياجنتسيف، كشف عن معلومات مهمة بشأن تطور الفكرة وبشأن المسارات المتعمقة التي ذهب إليها السيناريو، حيث قال: كنت حريصا على تعميم قضية الفيلم للهروب من "المصير الوثائقي" أو من نوعية الأفلام الأمريكية التي يسبقها تعبير "يعتمد على قصة واقعية"، وهذا يتطلب مني توفير مرتكزات فلسفية وإنسانية، وقصص متوازية تخص "القضية المركزية" في أي زمان وأي مكان.

(3)
لكن ما هي "القضية المركزية"؟

طرح زفياجنتسيف السؤال على نفسه بإلحاح حتى توصل إلى موضوع العلاقة بين "المواطن الفرد العادي" وبين "الدولة كوحش لا يُقهر". فقد أخبره صديق له عن كتاب ليفياثان" لتوماس هوبز، ومن خلال الكتاب والمناقشات مع الكثير من الأصدقاء المهتمين بالدين والسياسة والفلسفة، تعرف أيضا على قصة سيدنا أيوب في "العهد القديم"، لكنه لم يرغب في تقديم فيلم تاريخي أو ديني أو ملحمي على طريقة: كان ياما كان في أرض عوص (على الأرجح الموقع الحالي لمشروع نيوم الكبير) يعيش رجلا موسرا يدعي "أيوب".. كان كاملا ومستقيما يتقي الله ويحيد عن الشر، لكن الشيطان لم يتركه في حاله، فانهالت عليه المصائب تباعا حتى خسر كل شيء: الأرض والثروة والعائلة والصحة. وهكذا تبلورت "القضية المركزية" في رأس زفياجنتسيف: "تملكتني رغبة شديدة أن أسرد قصة رجل يفقد كل شيء يملكه، في مواجهه حتمية غير متكافئة مع قوة لا يقدر عليها، رسمت شخصية ميكانيكي سيارات بسيط (هذا هو التشابه الوحيد بينه وبين هيمير) يدعى نيكولاي ومعروف بين أصدقائه باسم "كوليا"، يمتلك بيتا خشبيا على شاطئ البحر ويعيش مع زوجته وابنه، لكن العمدة يسعى لطرد كوليا من بيته ليهدمه ويبني مكانه مشروعا يخصه. ويستعين كوليا بمحام من موسكو، لكن الأمور تزداد تعقيدا، ويظهر العمدة شراسة في المواجهة، حيث يختطف المحامي ويهدده، فيهرب عائدا إلى موسكو، ثم يلقي كوليا في السجن بتهمة قتل زوجته التي انتحرت يأسا. ويتحول الابن إلى يتيم يتبناه شرطي وزوجته من أصدقاء كوليا، للاستفادة من إعانة رعاية اليتيم. ويبدو المشهد الختامي للفيلم مروعا، حيث ترتفع الأذرع الحديدية للجرافات كوحش كاسر يحطم بيت كوليا بكل ما فيه من محتويات وذكريات، في تقطيع مع مشاهد الأمواج المتلاطمة التي تضرب صخور الشاطئ المنعزل، بينما تظهر من المياه بقايا هياكل الحيتان الضخمة (ليفياثان) كأنها منحوتات أبدية مخيفة.

(4)
الفيلم مشحون بالدلالات والمشاهد المعبرة عن هيمنة حيتان الفساد على حياة الناس، من خلال شبكة متشعبة تتحالف بعهد شيطاني وتوظف القانون والدين لخدمة أغراض الوحوش في الدولة البيروقراطية. وعلى سبيل المثال، عندما يسأل كوليا صديقه المحامي: إذا كان هذا العمدة فاسدا كما تقول مستنداتك، فلماذا إذن لم يدخل السجن؟

يجيب المحامي: لأن شخصا "من اللي فوق" يريده في موقعه.. إنهم يطلقونهم علينا كوحوش جهنمية، بينما يمسكونهم من خياشيمهم ليظلوا تحت السيطرة.

وهناك مشهد التعاون الوثيق بين العمدة وبابا الكنيسة، وكذلك خطبة البابا التي جاءت كنقطة تنوير لمشهد النهاية، وقبله سؤال الزوجة للمحامي: هل تؤمن بالله؟ وإجابته التي ألقت بظلالها على الأحداث: لماذا تسأليني دائما عن الله؟.. أنا أؤمن بالحقائق. ومشهد "كوليا" عندما كان يمتلك إرادة المقاومة والأمل في النصر، حيث يخاطبه العمدة مستنكرا عناده: أنت يا كوليا.. ألا تميز السلطة عندما تراها؟

يرد عليه كوليا باحتقار: وما الذي تريده أيها "السلطة"؟

يشير العمدة إلى بيت كوليا قائلا بلهجة حادة ومقتضبة: هذا.

يرد كوليا متحديا: تعال وخذه، إذا وجدت له مكانا بداخل نعشك!.. أنتم كلكم حشرات تغرقون في القذارة.

يقول العمدة متوعدا: أنت دائما تحب أن تصعب الأمور، أليس كذلك؟

يرد كوليا بثقة: سأقف في وجهك أيها الداعر.

(5)
في مقابل مشهد "كوليا المقاوم" الذي يواجه العمدة بثقة ويقين، يظهر "كوليا الضائع" محطما غارقا في الفودكا والأسئلة المعذبة، حيث يلمح الأب فاسيلي قس الكنيسة الصالح، فيسأله: أين إلهك الرحيم؟

يرد القس: إلهي معي، لكنني لا أعرف أين إلهك يا كوليا، فأنا لا أراك في الكنيسة، لا أراك تصوم أو تأكل القربان أو تعترف.

يقول كوليا بائسا: إذا أشعلت الشموع وفعلت كل ذلك الذي قلته، هل ستتغير الأمور؟.. هل ستعود زوجتي من الموت وأستعيد منزلي؟

يرد القس: لا أعلم، العلم عند الله

يسأله كوليا: طالما لا تعرف، لماذا تدعوني للاعتراف؟

يتلو القس عليه ىيات من الإصحاح رقم 41 من العهد القديم: "أتصطاد ليفياثان بشص؟ أو تعقد لسانه بحبل، أو تثقب فكه؟ هل يمكنك أن تطلب منه الرحمة فيتحدث معك بكلمات لطيفة؟ هل يعاهدك بعقد فترتبط به إلى الأبد؟ هل تلعب معه كالعصفور؟ أو تقيده لتسلية فتياتك؟.. لا شيء على الأرض قويم أو عادل.

يقول كوليا معترضا: أيها الأب فاسيلي، أنا أتحدث معك كشخص عادي، فلماذا إذن كل تلك الألغاز اللعينة؟.. لماذا؟

يسأله فاسيلي: هل سمعت برجل اسمه أيوب؟ إنه مثلك، كان مشغولا بمعنى الحياة، وكان يسأل دائما: لماذا؟.. لماذا أنا من بين كل الناس؟ لقد كان قلقا بدرجة كبيرة، حتى تعب عقله، فحاولت زوجته أن تتحدث معه وتعقله، ونصحه صديقه ألا يثير غضب الله عليه، فبدأ يهيل التراب ويعفر رأسه ندما، عندها استجاب له الرب وتجلى أمامه في شكل إعصار، وشرح له كل شيء بالصور، فامتثل أيوب لقدره راضيا، وعاش 140 سنة، رأى فيها أربعة أجيال من عائلته، ثم مات شيخا قنوعا.

يسأل كوليا: هل هذه حكاية خرافية؟

يجيب القس: لا، إنها في الإنجيل.

(6)
لم يستطع كوليا أن يفعل ما فعله "هيمير" (وربما لم يرغب)، كما لم يستطع أن يفعل ما فعله سيدنا أيوب (وربما لم يرغب)، ولم يستطع أن يقتنع بكلام العمدة ولا بكلام المحامي، ولا بكلام القس، وفضل على ذلك كله أن يظل "كوليا" المواطن البسيط الذي تصادمت حياته مع وحش الدولة، فلما أراد الدفاع خسر كل شيء؛ لأنه لا يستطيع أن يصطاد الوحش بصنارة، ولا أن يصاحبه، ولا حتى ينتظر منه اللين والفهم والرحمة. فالدول الفاسدة لا تجيد إلا تحطيم حياة الناس، وهذه حكاية برغم خيالها ورمزيتها إلا أنها حكاية واقعية جدا، أو هي الواقع الذي نعيشه جميعا في هذه الأيام، فكلنا كوليا، وإن تغيرت الأسماء والبلدان.

(عيدية أمل)

برغم كل ذلك العنف، وبرغم هيمنة الدولة على مصائرنا، وبرغم أننا عالقون في المساحة المبهمة بين صبر أيوب وبين وعنف هيمير، علينا أن نبحث عن البديل الغائب.. عن الخيار الثالث بعد الصبر والعنف، وحتى نصل إليه أتمنى لكم كل وافر الخير والنصر، كل عام وانتم بأمل وحرية وعزة وكرامة.

tamahi@hotmail.com