كتاب عربي 21

الأب السوري مسكينا ويتيماً وأسيرا

1300x600
استفاق الأب السوري في فردوس المنفى الأوروبي ليجد نفسه، وقد تحول من أب إلى ابن!

لم يعد الأب أباً، لقد فقد بيته ووطنه، وأبوته أيضاً. الولد غاضب دوماً، لا يأكل طعام البيت المعد إعدادا مركباً، ويفضل الطعام الجاهز السريع المغلّف. شهيته مفقودة، وشعره قزعة، وثيابه ميتاليك، وعلى جلده وشوم وأختام. والابنة حالها أصعب. عندما تكون الأسرة أكثر تأصيلا، المشقة أكبر.

أكبر هزائم السوري، وخساراته الفادحة، ليست في البيت والحيّ، والذكريات، والمتاع، وإنما هزيمته كأب. لقد عاد إلى أرذل العمر باكراً. لقد بدأت الحرب الأهلية الحقيقية، التي طالما شدت بها الأخبار وتغنّت.

خوفاً من البراميل التي لا مظلات تقي منها، أو الموت في الدواليب، وليس تحتها، أو على بساط الريح. هرب السوري بأسرته إلى دول الجوار، ثم صار مثل الهرة، ينقل أولاده كل يوم من ملجأ إلى آخر ومن دولة إلى أخرى. وتحت أضراس التجربة، وأشواط الحياة، وأشواقها الحارقة، وجد أن أفضل الجيران هم الترك، وأشدّهم كان العرب، وظلـم ذوي القربـى أشــد مضـاضـة على المرء من وقع الحسام المهند. والقيم الإسلامية المشتركة بين العرب والترك، تجعل الحياة متقاربة في الآداب والطعام، والعادات، فالعنصرية في بلاد الترك، أقل منها في دول الجوار. فمن الصعب تمييز العربي عن التركي من الهيئة، لكن تركيا ليس لها خبرات أوروبا في احتواء المهاجرين وتدجينهم، والتي تتكفل برعاية المهاجرين الوافدين واللاجئين سنتين على الأقل، لذلك فضّل السوري بلاد الروم وبريقها على تركيا، التي تخوض معارك سياسية داخلية وخارجية.

الأب الذي شاب، فأخذوه إلى الكتاب، يعاني من صعوبة تعلّم اللغة، التي سبقه ولده إلى تعلّمها، فخسر ولاية المعرفة، وهي أقوى أنواع الولايات، وكان الله جل شأنه قد فضّل آدم على الملائكة، بمعرفة الأسماء، وقد خسر الولاية الاقتصادية من قبل، فلن يستطيع أن ينخرط في سوق العمل إلا بعد تعلّم اللغة، والولد في المدرسة الأوروبية يتعلم حقوقه الاقتصادية والقانونية، ويطالب بحصته المالية من أول الشهر.

الدولة الأوربية هي الأب والأم، وهذا على الأقل أفضل من أن يكون الرئيس هو الأب القائد.

وهكذا خُلع الأب من عرشه السابق الذي ولّته عليه السماء، وتحوّل إلى موظف أجير لدى ابنه، وساعي بريد بين الأسرة ومؤسسات الدولة الأوربية الشاملة. بل يمكن القول إنه تبادل مع ابنه المواقع، فصار الابن هو ولي الأمر الفعلي، فولي الأمر الكبير سناً، الصغير شأناً، يصطحب ابنه الصغير في السن، الكبير في القدر والشأن، ولي أمره الجديد، إلى مؤسسات الحكومة للتسجيل، وقضاء الحاجات، والترجمة..

الدولة الأوربية دولة شاملة، صارمة، تراقب جميع شؤون الحياة، لم تبلغها الدولة العربية الناشئة، ولا التركية، فيعيش تناقض القيم بين الموروث، وبين القيم الجديدة، والأخلاق العملية، مثل الوقوف بالدور، أو تشميت العاطس، أو عدم النظر إلى المثليين بعين الشزر، وإذا بلغ الثامنة عشرة نال حصانة لا ينالها عضو مجلس الشعب في البلاد العربية!

"كنا عايشين"، في دولة ما بعد الاستقلال العربية المخابراتية، والعيش أدنى رتبة من الحياة في اللغة، ومعاجم اللغة تفرق بين العيش والحياة. وكان الأب يغالب القهر السياسي بالنفاق، والعيش بوجهين، و يخسر ملكه وسلطانه يوماً بعد يوم.

لم يحدث الأمر فجأة. ضعف الأب كثيراً، ومن زمان، لم يعد قادراً على حماية أسرته، فقوانين الطوارئ والأحكام العرفية كانت تجيز اعتقال الآباء والأبناء، ولم يعد قادراً على تزويج ابنه، كما كانت الأجيال السابقة تفعل، ولا على تصحيح مبادئ التاريخ والدين التي تلقنها المدرسة له. كانت الدكتاتوريات القديمة تذبح الأبناء، وتستحيي النساء، أما الدكتاتوريات الحديثة فالتهمت الآباء والأبناء معاً.

كان ملكاً صغيراً على أسرة، وقتلُ الملوك يهدد في الأساطير بالكوارث، والأساطير وعاء تجارب وخبرات الأجيال، والأسرة هي أهم مملكة في المجتمع. ولهذا نسمع بجرائم فظيعة عن قتل آباء لأولادهم، أو قتل أمهات لأولادهن في وحشة المنفى الأوربي.

الأب أمسى أباً فخرياً، لا حول له ولا طول. أمثلة الأسر السورية الناجحة التي استطاع آباؤها الأذكياء الانخراط في الحياة الجديدة، أو ما يسميه الغربيون الاندماج، لا تبشر بخير. فالأسرة فقدت رحمها الحاني الذي كان ما يزال يحتفظ ببعض الوشائج القوية، فالسلطة العربية الحاكمة، كانت تتجنب الحرب المباشرة مع الأعراف والدين.

لم يكن الوالدان وحدهما من يربيان الولد، بل الحارة، والأقارب، والمدرسة، ولن يستطيع الأبوان وحدهما إنشاء الأسرة. الأسرة من الأسْر في العربية، وقد تحررت فساءَ تحريراً. وفضيلة الأسرة أن تبقى في الأسر، فالحرية تقتلها، والأسرة الغربية لها اسم آخر، اسمها فاميليا، ابنها دون جوان، والابنة غادة الكاميليا. الأسرة الغربية صارت تشبه الفانيليا التي تضاف إلى قالب الكاتو المنفوش، من أجل الطعم والنكهة، لكن الخبز شيء آخر.

الأسرة في الغرب، انتقلت من علمانية فصل الدين عن السياسية، إلى علمانية فصل البنوة عن الأبوة، فاقتنى الغربي الكلب، تعويضاً عن الرحم والقرابة والولد، ورغبةً في الطاعة المطلقة. لقد فقد الأب السوري، ومن على شاكلته، أبناءه في الغرب. إنه جالس، يندب ملكه وعرشه، لأن زوج الأم، الذي يسمي نفسه بالأب القائد، طرده من بلده، لقد نجا الأبناء من القتل، لكن الأب خسر الولاية، وقُتل رمزياً.

الحضارة الأوربية، خلال قرون الصراع مع المؤسسات التي تسمى بالتقليدية، هجاءً ونعياً، كانت قد مزقت الأسرة، وقتلت الأب كما قال فرويد، وقتلت الرب أيضاً كما أعلن نيشته، وجعلت الفرد يعبد نفسه، ويسعى إلى رضى حواسه الخمس، لا رضى ربه ورضى الوالدين.

اللهم أنا نعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال، فكيف إذا كان القاهر ابنك أو ابنتك!