كتاب عربي 21

الجحيم السوري.. مجرد لقطة

1300x600

خذوا مني عذريتي إذا كانت تعيد لكم جنتكم وتعيد لي وطني..


خذوا جسدي الصغير وحطموه وارفعوا مآذنكم على دمي.. على دمي

 

خذوا جلدي وأقيموا عليه صلاتكم واتركوا أرضي أقيم بها قبرا لدميتي وطفولتي..

 

هكذا أراد المخرج/النائب في مجلس الشعب نجدت أنزور، على لسان شخصية الفتاة اليافعة نور في فيلمه (فانية وتتبدد – 2016)، أن يلخص ما تشهده سوريا من حرب طاحنة اختلطت فيها المعطيات وتعددت الروايات والتبس فيها الحق بالباطل والحق بالضلال.

 

نور فتاة سورية من بنات قرية تقع تحت الحكم الداعشي بزعامة الشيخ الهرم أبا الوليد الذي يغرم بالفتاة ويختصها لنفسه زوجة/عبدة لاستيهاماته الجنسية ورغباته الشاذة. استنفر الجيش العربي السوري، بتنسيق مع عروة وهو أحد مساعدي الأمير التائب، قواته لإنقاذ الفتاة قبل أن يوغل فيها الشيخ شذوذه نكاية عن إنقاذ بلد يعتبره نجدت أنزور ونظام حكم بشار الأسد مستباحا من الخارج في مؤامرة كونية لم يسبق لها مثيل. وطوال الفيلم استعرض أنزور جوانب من معاناة المرأة السورية، على الخصوص، في ظل الحرب المستعرة، في ترديد واضح للرواية الرسمية الساعية لاسترجاع سكان المناطق الواقعة تحت نفوذ الفصائل المسلحة لحضن الوطن/حضن بشار.

 

قطع على الواقع...

 

قبل أيام جاء الرد مزلزلا من حبيبة/نور، الفتاة الصغيرة النازحة من منطقة حمورية الواقعة تحت نيران النظام وداعميه، وهي ترد على والدها المتوسل إليها أمام كاميرات التلفزيون أن قولي إنك سليلة لبشار. ردت البنت بعفوية الأطفال " لأ.. ما بدي بشار"، فأخرست الألسن وقدمت شهادة جيل عاش الحرب وويلاتها منذ أيام الولادة الأولى وكون وعيا من وسط الحزن والألم والموت والدمار لن يستطيع أنزور وبقية أذرع النظام الإعلامية إعادة صياغته وفق المنظور البعثي للتنشئة والتعليب.

 

هي لقطة كان التلفزيون الرسمي يبحث عنها لتوثيق بطولات الجيش العربي السوري وهمجية الفصائل المقاتلة فارتدت على أصحابها شهادة للتاريخ مقابل لقطة بشار الأسد متباهيا على ركام الغوطة بانتصارات ضباطه وجنوده. أي نصر هذا يتحول لمجرد لقطة على كوم أحجار وركام؟

 

وهي تستعد لمغادرة مخيم للنازحين داخل الوطن السوري، ومن داخل سيارة يقودها زميلها ياسر، تنظر المصورة الصحفية ريما خارجا فترى فتاة صغيرة بالقرب من السيارة تتطلع إليها. تمد ريما يدها في اتجاه الطفلة حتى تشابكت أصابعهما. تبتعد السيارة عن المكان على خلفية صوت ريما في فيلم (سوريون – 2016) للمخرج باسل الخطيب.

 

ريما: بالحرب الأولاد بيموتوا أول الكل.. ايلي بيعيش منهم يظل محكوم عليهم بالخوف.. وعمرهم ما حيقدروا يعيشوا حياة طبيعية.

 

لا أحد يمكنه أن ينسى صورة جسد الطفل الكردي إيلان مسجى على رمال شاطئ "تداعبه" أمواج بحر لم يرحمه كما لم يجد رحمة في قلوب تحجرت وجعلت البنادق والبراميل والسيارات المفخخة والدبابات وسيلتها الوحيدة لحسم الصراع. ولا أحد يمكنه أن ينسى صورة الطفل عمر دقنيش على كرسي سيارة إسعاف وعيناه تبحثان في الفراغ عن إجابة لما آل إليه وضعه ووضع أقرانه من أطفال سوريا. لا أحد يمكنه أن ينسى كثيرا من تلك الصور المؤرخة للتغريبة السورية كما جسدتها صورة الرضيعة النائمة، قريرة العين، في حضن حقيبة سفر آوتها بديلا عن حضن وطن يقيها شر النزوح عن بيت عائلتها بالغوطة وعن وطنها الذي شردت فيه الحرب أحد عشر مليونا نصفهم انتشر في بقاع الدنيا لاجئا ومشردا. يشير آخر تقرير أممي إلى وجود ما يناهز 1244 تجمعا داخليا للنازحين يأوي ستة ملايين نصفهم يعيش في مناطق محاصرة يصعب الوصول إليها مما يجعلهم عرضة لصراع سمته تجاهل مطلق لأبسط معايير المبادئ والقوانين، حسب مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، الذي استنكر بالمناسبة "حماية" مجلس الأمن مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية هناك.

 

بعد تلقيه طلقة رصاص من قناص داعشي، وهو يتنقل مع ريما في مهمة تصوير صحفي، في فيلم (سوريون)، تجلس الأخيرة بجانبه وهو يحتضر..

 

ريما: سامحني ياسر.. سامحني.. ما كان لازم أورطك معي من البداية.

 

ياسر: انت ما ورطتيني.. أنا معاك تعلمت شغلات كثير ما كنت أعرفها.. من أول ما بلشت الحرب وأنا بعيد عن كل شيء.. ساكن لحالي أنا وأمي ومفكر حالي عايش في أمان.. ما خطر ببالي ولا لحظة أن ايلي بيصير في العالم حيصيبنا.. بس أنا معاك شفت كل شيء.. شفت بعيوني.. شفت صورك.

 

لم تنس ريما أن توثق اللحظة بأيدي مرتعشة وهو تأخذ لزميلها صور الجسد المسجى.

 

في مجتمع دولي لا يراعي الحقوق إلا واجهة لتصريف "إنسانيته"، لم تكن الجرائم الموثقة ولا التقارير الدولية ولا اللقطات السابقة، وإن أثارت حينها تعاطفا افتراضيا، ذات تأثير في سير الوقائع والأحداث. سيزار، أو القيصر، شاهد ملك وثق جرائم النظام صورة صورة من داخل الأقبية السرية، والنتيجة عشرات الآلاف من صور جثث مواطنين قضوا تحت التعذيب الذي تفنن فيه السجانون ضربا مبرحا وصعقا بالكهرباء وتكسيرا للعظام وخنقا لم يستثن الأطفال والشيوخ.  وبالرغم من تشكيل فريق دولي انتهى لتأكيد مصداقية الصور فقد ظل الموضوع كله دون محاسبة أو إحقاق لعدالة دولية تكيل بمكاييل أبعد ما تكون عن السعي للإنصاف. صور سيزار مجرد لقطات تزين صفحات الجرائد ونشرات الأخبار.

 

سوريون..

 

ريما (وهي تقلب صور الكاميرا): تغيرت.. ما عدت مثل قبل.. كل صورة بصورها عم تغير فيا شي.. من زمان كنت أصور كل شيء بيفرح.. عمري ما فكرت بالموت.. اليوم من كثر ما صورت الموت والخراب تعبت.. ما بعم أعرف وين أحط الكاميرا وشو لازم أصور.. يمكن بوقت الموت والحرب لازم أرجع أصور هدول الناس.. هدول ايلي ظل عندهم أمل.. وإيمان.

 

وعن الإيمان كان الحوار الذي جمع المصورة الصحفية بوالد يوسف، بطل الفيلم.

 

الأب: شلون قلبت الدنيا وصار فينا هيك؟ مو حرام؟ كنا عايشين بأمان وانفتحت علينا أبواب جهنم.

 

ريما: الكل بيعرف ليش هيك صار.. راح نظل نسأل ما عملنا الشي ايلي كان لازم نعمله من زمان.

 

الأب: تعرفي ايش تعلمته أنا بعد هاد العمر؟ الواحد شو ما صار معاه مو لازم يفقد إيمانه. صار لي أربعين سنة أستاذ مدرسة.. طلابي صاروا دكاترة وأساتذة ومسؤولين بالدولة بارجع أقول لهم نفس الكلام ايلي قلتن وهما صغار.. لا تفقدوا إيمانكم.

 

ريما: عن أي إيمان بتحكي؟ الناس حياتها اتدمرت وأنت مو خايف؟

 

الأب: من شو بنتي أخاف؟

 

ريما: من كل شيء.. أنك عايش لحالك.

 

الأب: يا بنتي الواحد بس يصير ختيار ما بيخاف يعيش لحاله.. بيخاف يعيش إلا يكون تابع لحدا.. هذا ايلي بيخوف.

 

نور وحبيبة وعمر وروح إيلان يعلمون أن الوطن قد ضاق بأجسادهم الصغيرة وأرواحهم البريئة وأن مصيرهم حقيبة بحجم وطن بديل يتنقلون بها في أرض الله الواسعة وإن ضيقتها الحواجز العسكرية ومناطق التفتيش في الداخل وعلى الحدود. هم أيضا يعلمون علم اليقين أن الجميع يجري وراءهم بحثا عن "لقطة" تتناقلها الوكالات وتتباكى عليها حسابات افتراضية تحاول التطهر، دون خجل، من صمتها وعجزها عن التأثير.